السؤال: روي عن رسول الله ص أنه قال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها". أفلا يدل مثل هذا الحديث على حرمة البناء على القبور، ووجوب تسويتها بالأرض؟ وصحة ما قامت جماعة داعش وطالبان؟
الجواب: رفع القبور جائز لكنه مكروه إذا زاد عن أربع أصابع منفرجات. وترتفع الكراهة إذا كان البناء على قبر نبي أو إمام معصوم أو ولي صالح عالم، لأنه بذلك يكون بقعة لذكر الله والتقرب إليه.
ولكن ماذا نفعل في أمثال هذه الرواية؟
الجواب: إذا جاءتنا رواية، حتى لو كانت صحيحة السند، فهل يجب علينا قبولها مباشرة، أم علينا عرضها أولاً على القرآن، وعلى عقولنا، كما أمرنا بذلك النبي وأهل بيته الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ مثلاً لو كانت الرواية تجمع في مجلس واحد بين رسول الله وبين المأمون العباسي أو عمر بن عبد العزيز، فلا بد أن نعترض عليها، لأن التاريخ يرفض هذا الاجتماع.
وعن هذه الرواية المذكورة في السؤال نقول: مضافاً إلى أنها عامية ينفرد بها أهل الخلاف، فإن محتواها أيضاً يواجه مشاكل عديدة يجعلها مرفوضة جملة وتفصيلاً.
إذ الظاهر منها أولاً: أنها كانت تتحدث عن المدينة المنورة، وهو اسم لم يطلق عليها إلا بعد الهجرة النبوية المباركة، ولذلك سميت باسمه (مدينة النبي)، مع أن سياق الرواية هو الحديث عنها قبل الهجرة.
وثانياً: إن كان الحديث قد صدر في الحقبة المكية، فلقد كان الأهم والأولى قبل ذلك دعوة أهلها إلى الدين الحق، وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله بالفعل، حيث أرسل مصعباً لتلك المهمة.
وثالثاً: لم يعرف عن المدينة المنورة – بحسب التتبع – أنها كانت تسنم القبور.
ورابعاً: لا معنى لأن يرسل النبي صلى الله عليه وآله شخصاً واحداً إلى المدينة كي يقوم بكل تلك الأمور المذكورة. خصوصاً إذا افترضنا أنها كانت مدينة لم تدخل الإسلام بعد. ومن الطبيعي أن يجابهه أهلها بالاعتراض والقتال، لأنه يحطم دينهم، الذي هو أكثر شيء حساسية عند الإنسان، بغض النظر عن أنه عمل بعيد عن الحكمة والتدبير الذي وصف الله سبحانه به رسوله صلى الله عليه وآله.
خامساً: لا معنى لأن يخصص النبي صلى الله عليه وآله المدينة المنورة لطمس قبورها من بين سائر المدن والبلاد.
سادساً: الرواية تقول أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره ولا قبراً إلا سواه ولا صورةً إلا لطخها فقال رجل: أنا يا رسول الله فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع فقال علي رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله قال: فانطلق ثم رجع فقال: يا رسول الله لم أدع بها وثناً إلا كسرته ولا قبراً إلا سويته ولا صورةً إلا لطختها"[1]. مما يفهم منها أن الذهاب والإياب، ثم ذهاب أمير المؤمنين ورجوعه، كل ذلك حصل والناس مجتمعون ينتظرون، خصوصاً على بعض الروايات لهذا الخبر، التي ذكرت أن النبي صلى الله عليه وآله كانوا في جنازة، وكل الأحداث جرت،وهم ما يزالون في تلك الجنازة، هذا مع علمنا بالفاصل الجغرافي الشاسع بين مكة والمدينة، لاسيما لمثل تلك الأزمان التي كانت تتطلب أسابيع، إن لم يكن شهوراً، فيصعب استساغة الخبر.
سابعاً: لو افترضنا أن الحدث قد حصل بعد الهجرة، فلا معنى لأمر النبي صلى الله عليه وآله أن ينطلق أحدهم إلى المدينة، وكأنهم ليسوا من سكانها.
فإن قيل: لا مشكلة في ذلك، إذ قد يكون قالها صلوات الله عليه وآله، ذات يوم وهو مع أصحابه خارج المدينة.
قلنا: لقد آمن أهل المدينة قبل الهجرة، وأمّر عليهم مصعب بن عمير، وبعد أن هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وآله توطن المدينة، فصارت بلده التي دعا الله أن يحفظها، ولأن يحرّم ما بين لابتيها، كما حرّم الله مكة بالحرم. وقد أصبح السلطان الآمر والناهي فيها، فهل يعقل أن يسكت على أمر شركي وقبيح، كهذا المدعى في الخبر، ثم لا ينهى عنه، ولا يأمر بإعفائه، بل يتربص أن يخرج مع أصحابه خارج المدينة ليأمر أمره ذاك، وبهذه الصورة؟! أما كان الأجدر به صلوات الله عليه وآله أن يصدر أمراً بذلك فيأتمر المسلمون جميعهم، مهاجروهم وأنصارهم به؟!
ثامناً: لا معنى لرجوع الرجل خائباً وقد تملكته مهابة الناس وخوفهم. لاسيما مع ما ذكرناه من أن أهل المدينة كانوا هم الذين أقبلوا على الدين طوعاً دون إكراه، فبايعوا النبي على النصرة والطاعة وبذل الأرواح، وكل غالٍ ونفيس، فكان يكفي أن يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله ليمتثلوا أمره.
تاسعاً: لو سلمنا صدور الحديث، فإنه إنما يأمر تسوية قبور الكفار لا المسلمين. مع أن البعض يحاول أن يسحب الحكم على المسلمين، وشتان بين الحالتين.
عاشراً: أيضاً لو سلمنا صدور مثل هذا الحديث، وغضضنا النظر عما ذكرناه من اعتراضات، فماذا نفعل في ما دل على جوازه بل الحث عليه من الآيات والروايات، وسيرة النبي صلى الله عليه وآله، بل وبأقواله الأخرى، وهي مذكورة في كتب المسلمين جميعاً؟
فمقتضى هذه الرواية تسوية القبر كليّاً مع الأرض والتراب، ولكن قوله تعالى: "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً"[2]، ظاهر في رجحان ذلك ومشروعيته.
وكذلك تظهر سنة النبي وسيرته أنه صلى الله عليه وآله كان يزور القبور كقبور عمه الحمزة وصاحبه عثمان بن مظعون وأم أمير المؤمنين عليه السلام فاطمة بنت أسد عليه السلام، وقبر أمه آمنة بنت وهب عليها السلام في الأبواء وقد بقي سالماً بعد وفاتها قرابة خمسين عاماً، وكان معه أصحابه، فنزل عند قبرها، فبكى وبكى الجمع. وظاهر الحال أنه كان مبنيّاً، أو لا أقل من ارتفاعه عن الأرض، أو وجود أي علامة تميزه كقبر، بحيث يبقى معروفاً كقبر، طيلة تلك السنين. بل صرحت بعض الروايات أنه صلى الله عليه وآله نزل فأصلح ما اندرس من قبرها.
حيث جاء في ترجمة الأبواء من معجم البلدان، أنها: قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي ثلاثة وعشرون ميلاً، وبـالأبـواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي (صلى الله عليه وآله) وكان السبب في دفنها هناك أن عبد اللّه والد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله ) كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً فمات بالمدينة فكانت زوجته آمنة بنت وهب تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره فلما أتى على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة ماتت بها[3].
وذكر ابن سعد في طبقاته تفصيل الخبر، و قال في آخره ما موجزه: فلما مر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في عمرة الحديبية بالأبواء أتى قبر أمه آمنة فأصلحه و بكى عنده وبكى المسلمون لبكاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)[4].
وأهم منه بناء قبر النبي صلى الله عليه وآله، وهو جوهر الدين ولبابه، وقد كان مرفوعاً، وعليه صندوق. وجاء في طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفن في بيته الذي قبض فيه، ثم بني على الغرفة القبة الخضراء[5].
ونقلت الأخبار تبرّك أبي أيوب الأنصاري بقبر النبي (صلى الله عليه وآله). فعن داود بن أبي صالح، أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر فأخذ مروان برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه ، فإذا به أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم إني لم آتِ الحجر، إنما جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم آت الحجر. سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله»[6]. وقد صحّحه الحاكم في مستدركه وكذلك الذهبي، وقال السبكي: فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر»[7].
كما رووا عن ابن حملة: أن عبدالله بن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأن بلالاً وضع خدّه عليه أيضاً[8]. وحين توفي أبو بكر وعمر بنوا على قبرهما أيضاً ورفعوهما في حجرة الزهراء سلام الله عليها.
وتلك هي قبور الصلحاء، ولاسيما الأنبياء والأولياء تملأ بلاد المسلمين شرقاً وغرباً، وقد جرت سيرة المسلمين على مختلف مشاربهم ومذاهبهم على زيارتها والتبرك بها والتوسل إلى الله عندها والتعبد فيها إلى الله عز وجل. ففي دمشق الشام ثمة أضرحة للنبي يحيى بن زكريا عليه السلام في دمشق والسيدة زينب بنت علي بن أبي طالب وسكينة بنت الحسين ورقية بنتي الحسين عليهن السلام، وبعض أزواج النبي رضوان الله عليهن، وفي صفين مرقدا عمار بن ياسر وأويس القرني. وفي فلسطين ضريح النبي إبراهيم في الخليل عليه السلام، بل وإسحاق ويعقوب وبعض النبيين. وفي مصر أضرحة السيدتين زينب ونفيسة ومالك الأشتر المعروف بالسيد العجمي. وقد كانت مقبرة البقيع تعج بأضرحة الأئمة والصالحين صلوات الله عليهم، لولا ما أقدم عليه الوهابيون من هدم القبور في عام بحجة التشريك وعبادة القبور، وما زالت بلاد المسلمين تعج بالكثير من القبور العظماء التي تهفو إليها قلوب المؤمنين بالله الواحد الأحد كلما تاقت قلوبهم للتوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
[1] مسند أحمد 1 / 87 ، 89 ، 96 ، وغيرها. ومسند الطيالسي ، ح 96 و 155 .
[2] الكهف 21.
[3] معجم البلدان 1/100.
[4] جـاء خبر بكاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على قبر أمه وبكاء الصحابة في سائر كتب الحديث طبقات ابن سعد و سنن النسائي كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك 1/267.
[5] طبقات ابن سعد 2/292 ـ 294 ; و سيرة ابن هشام 4/343.
[6] مستدرك الحاكم 4: 560 الرقم 8571. وفاء الوفاء 4: 1404.
[7] وفاء الوفاء 4: 1404 ، كشف الارتياب: 347.
[8] كشف الارتياب: 436، عن الخطيب ابن حملة، شرح الشفاء 2: 199، وفاء الوفاء 4: 1405.
1 التعليقات:
احسنتم
إرسال تعليق