السؤال: كيف نفسر تزويج النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام بنتيهما من عمر؟ أولا يتساويان في الفضل مع علي بن أبي طالب؟ ثم ألا ينقض ما تصر عليه الشيعة من الطعن في دين أبي بكر وعمر وعثمان؟ وينفي ما يتناقل من ظلمهم لعلي والزهراء والحسنين عليهم السلام، خصوصاً مع الأخبار التي تشير إلى صمت علي وسكوته على هضم بضعة النبي وهو الغيور الشجاع الذي لا يهاب ولا يخاف، مضافاً إلى استبعاد البعض أن يصدر من العرب مثل تلك الأعمال الشنيعة والمشينة بحق الأعراض والنساء، لما عرفوا به من الغيرة والرحمة بالنساء؟
الجواب: أما تزويج النبي (صلى الله عليه وآله) بناته لعمر فهو خطأ، ولعل المقصود عثمان. والنقاش فيه واضح من جهة أن رقية وأم كلثوم من غير الثابت أنهما بنتا رسول الله صلى الله عليه وآله، كما تعرضنا إليه مراراًً.
ومع تسليم ذلك فلم تكونا – أولاً - بمنزلة الزهراء عليها السلام، وثانياً: أن عثمان كان على ظاهر الإسلام، ومن المعلوم أن النبي الأعظم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، حتى بالنسبة لأبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف، لم يردهم من عند نفسه، بل عرض أمرهم على البضعة الطاهرة البتول، وكان الرفض يصدر منها. ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن ليرده بناء على ما كان سيحدثه في مستقبل أيامه. بل إن بعض الروايات تذكر تضييعه للأمانة، حتى يظهر جرمه للعيان، ويتكشف للناس حقيقته التي كان ينطوي عليها.
وأما تزويج أم كلثوم المنسوبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من عمر؛ فحتى لو سلمنا بها، مع أنها موضع نقاش كبير واعتراض لأسباب كثيرة يذكرونها في محلها، مع ذلك يمكن القول: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يتعامل معه بظاهر الاسلام حيث كان يظهره. ومن تشهد الشهادتين عدّ مسلماً، وعومل معاملة المسلمين من حيث النكاح والإرث وسائر الأحكام.
وأما ظلمه لأهل البيت صلوات الله عليهم وغصبه لحقهم الثابت؛ فأمر مسلّم تكفلت بإثباته كتب السيرة والسنة. وقد كانوا حكاماً ظالمين، يفترون ما يشاءون على من يشاءون، وبوق الإعلام بأيديهم، وقوة السلاح والبطش تحت تصرفهم، وأعين الشعوب مركوزة على الأمة الوليدة كيف تخلف نبيها، والأعداء من الكفار واليهود والنصارى وغيرهم، كانوا يتحينون الفرصة لينقضوا على الدين الجديد ليبيدوا معالمه، ويدرسوا آثاره.
فما الذي كان بوسع أمير المؤمنين عليه السلام فعله، غير الصبر والاحتساب، وهو المستأمن على الدين كله، وتثبيت دعائمه؟ فتراه سلام الله عليه يقول: فطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذاء، أو أن أصبر على طخية عمياء، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي الحلق شجى، وفي العين قذى، أرى تراثي نهباً[1]. وهو الذي كان يردد حين اقتادوه ملبباً، ومر بقبر المصطفى، قوله تعالى على لسان هارون حين خاطب أخاه موسى: " يابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني"[2]. نعم لقد خاف بطل الاسلام الخالد، خواض الغمرات ومنكس الرايات، خاف أعداءه وغدرهم وخبثهم، لكن لا على نفسه بل على الإسلام وبقائه.
ولا يمكن نفي ذلك تشبثاً باستحسانات واهية، من قبيل أنها ليست شيمة العرب وشهامتهم، ولا من شيمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وشجاعته، وكأن العرب منزهون عن العيوب، ومبرأون من الذنوب! وليت شعري كيف نفسر أيام العرب الخوالي في الجاهلية، حيث يغير بعضهم على بعض بسبب وبدون سبب، ويأكل القوي منهم الضعيف، وتنتهك الأعراض. وقد وصف القرآن الكريم ذلك فقال: " وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ "[3]. وقال: "وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت"[4]. ووصفهم الإمام عليّ (عليه السلام) نفسه في نهج البلاغة بقوله: "إنّ اللّه بعث محمداً صلّى اللّه عليه وآله نذيراً للعالمين، وأميناً على التّنزيل، وأنتم معشر العرب على شرِّ دين، وفي شرّ دار، منيخون بين حجارة خُشُن، وحيّات صُم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة..."[5].
وجاء في كلام جعفر بن أبي طالب، رضوان الله عليه، وهو يصف العرب قبل الإسلام لملك الحبشة قوله: "... كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف ..."[6].
وكما قال القطامي:
ومن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا
إلى أن يقول:
وأحياناً على بكرٍ أخيـنا إذا ما لم نجد إلاّ أخانا
ولا نحتاج بعد هذا أن نستطرد بذكر قصص الغدر وانتهاك الأعراض واسترخاص الدماء في أيام الجاهلية الجهلاء، ولا يمكن لعاقل أن يقبل أن هؤلاء العرب قد تغيروا بين ليلة وضحاها إلى أناس معصومين مطهرين، بمجرد نزول القرآن وبزوغ نور الإسلام!.
وأما خوف أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يكن على نفسه كما سبق وأشرنا، وتضحياته الجسام في سبيل الله سبحانه لم تتوقف عند حد، بل شملت جميع زوايا حياته، فقد أنفق ماله ودمه وجاهه وعلمه وكل شيء في سبيل هدفه الطاهر النبيل.
مع أن الخوف الطبيعي الفطري لا ينافي الشجاعة، إن لم يؤكدها، خصوصاً إذا وجدت له مبرراته المنطقية؛ وهذا هو القرآن يذكر في حق خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وهو الشجاع الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ولم يتهيب من نيران نمرود أن يتراجع قيد شعرة عن مواقفه المبدئية، فنعته الله جل شأنه بقوله: "وإبراهيم الذي وفّى"[7]، وقوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"[8]، لكن القرآن نفسه يقول عنه عليه السلام حين زارته الملائكة فقدم أمامهم الطعام فلم يقربوه، أنه أوجس منهم خيفة، وأنه أخذه الروع؛ قال تعالى: "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ"، إلى أن يقول سبحانه: "فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ"[9]. فهل كان خوفه متنافياً مع شجاعته ورباطة جأشه؟!
وها هو أيضاً موسى بن عمران النبي يخاف فرعون وقومه بعد انتصاره للذي من شيعته على الذي من عدوه؛ كما قال تعالى: " فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ"[10]، والنبي هارون خاف قومه أيضاً في غيبة أخيه موسى، قال سبحانه على لسان هارون: " قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"[11].
ولو كانت تصدر من أمير المؤمنين (عليه السلام) في الواقع أية مقاومة لكانت تعني حدوث فتنة يرتد فيها الناس عن الدين، وكانت الملل المحيطة بأمة الاسلام تترصد المسلمين لتدعي أنهم بمجرد أن مات نبيهم انقلبوا على تعاليمه، وصاروا يقتل بعضهم بعضاً من أجل الدنيا والسلطان.
وهذا هو المفهوم من كلامه (عليه السلام) حين قال: «حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلَّى اللّه عليه و آله وسلَّم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه»[12]. فبطولته عليه السلام التي تجلت في صبره لهي أعظم وأولى من انقياده إلى معركة ستقود إلى تقويض دعائم الاسلام وعلائمه، حتى لو كان هو المنتصر الميداني فيها.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
____________
[1] نهج البلاغة: الخطبة الثالثة .
[2] الأعراف: 150.
[3] النحل: 58-59 .
[4] التكوير: 9 .
[5] نهج البلاغة 1: 62 خطبة رقم 25 .
[6] السيرة الحلبية: ج2 ص30.
[7] النجم: 37 .
[8] البقرة: 124 .
[9] هود: 69 – 74 .
[10] الشعراء:21 .
[11] الأعراف: 150 .
[12] نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم 62.
0 التعليقات:
إرسال تعليق