السؤال: يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبي الله عيسى (عليه السلام) {ورسولا إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن اللّه وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 49)
نلاحظ أن عيسى(ع) نسب فعله إلى الله تعالى حين يقول: (بإذن الله)، بينما نجد في موضع آخر أن وصي سليمان آصف بن برخيا ينسب فعله بالإتيان بعرش بلقيس إلى نفسه ولم يقل: (بإذن الله سوف آتي بالعرش) كما هو صريح الاية: {قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنّي عليه لقويّ أمين} [النمل: 39] ، وكذلك الآية التي تليها: {قال الّذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك } [النمل: 40]؛ فماهو السبب يا ترى في اختلاف الخطاب؟
هل هو بما أن عيسى بشر ففعله بإحياء الموتى، وكل فعل من الأفعال التي قام بها خارج عن قدرة الإنسان، فلا يكون ذلك الشيء الا بإذن الله تعالى، ولو قال: (أنا أحيي وأميت) من غير تقييد بإذن الله لعبده قومه، لأنه فعل غير عادي بالنسبة للبشر، أما فعل وصي سليمان فهو من اختصاصه، ومن ملازمات خلقته، كما نقوم نحن بالأكل، أو بأي فعل آخر من اختصاص الذات البشرية بشكل عادي، ولايوجد استغراب، كذلك فعل آصف بن برخيا بالنسبة إليه كان عاديا، ولا مشكلة فيه، وكذلك هذا الفعل بإذن الله تعالى. لكن لايستوجب ذلك أن يقول: أنا أفعل ذلك الشيء بإذن الله تعالى، لأنه على يقين تام بأن فعله بإذن الله، وإلا لو قال ذلك للاقى استغرابا من أبناء صنفه، كما نقوم نحن بالأكل، فلو قال أحد: سوف آكل بإذن الله، لوجدنا استغرابا من الشخص المقابل. وسبب الإستغراب هو بداهة كون كل فعل بإذن الله. إذا لماذا خصصت الإذنية الإلهية بهذا الفعل البسيط وهو الأكل على الرغم من أنه أوضح الواضحات أنه بإذن الله تعالى؟!!! نرجو ردكم المبارك ودمتم سالمين.
الجواب: الآية الكريمة التي أشارت الى هذه القصة قالت: "قال الذي عنده علم من الكتاب"[1]، وهو كناية أوضح من التصريح بأنه إنما قام بذلك بإذن الله تعالى. هذا أولا.
وثانيا: أن الفرق بين الحالتين واضح جدا، فإن معاجز عيسى فيها شبهة الخلق وبث الروح والإبراء من بعض الأمراض التي لا دواء فيها أبدا، كإبراء الأكمه والأبرص، ومعلوم أن هذه الأمور لولا الإذن الإلهي الظاهري لما تمت، ولو تمت من غير ذلك التصريح لحصل للناس العذر في عبادته من دون الله، أو لا أقل من استحكام الشبهة حينئذ في أذهانهم، وحاش لله أن يلبس على الناس في دينهم واعتقادهم. وأما قضية إحضار عرش بلقيس فالأصل فيه أنه مقدور، وإنما الخرق في الأمر السرعة.
وثالثا: أن المضمار في قضية العرش لا يحتمل الإطالة بالكلام، إذ أن لفظ هذه الكلمات بحد ذاتها سوف تستغرق وقتا أطول من المجيء بالعرش، فلعل آصفا قد أضمر ذلك في نفسه، بشكل لا يستغرق الزمان، بل هو كذلك يقينا. لأن إتيانه كان بواسطة الاسم الأعظم، وهو تعبير آخر عن إذن الله تبارك وتعالى. ويظهر من ذلك أن الاسم الأعظم ليس أسماء وكلمات تلفظ، بل هو من جنس حقيقة أخرى، الله أعلم بها.
ورابعا: أن لكل مقام مقالا، والمخاطب في الحالتين مختلف. قوم عيسى كانوا ينسبون ذلك للشخص نفسه، لجهلهم، ولانتشار مهنة الطب والعلاج في أوساط علمائهم، فكان على عيسى عليه السلام أن يوقفهم على العلة المحدثة وهي إذن الله جل جلاله، بينما المخاطب في قصة آصف هو سليمان عليه السلام، وهو نبي أعلم وأفقه من ابن برخيا نفسه، فلا يحتاج بيان ذلك من آصف.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
________
[1] (النمل: 40).
0 التعليقات:
إرسال تعليق