الجمعة، 28 نوفمبر 2014

مخالفات الأنبياء لم تكن من جنس المعاصي!

من طرف طريق الفضيلة  |  نشر في :  9:50 م 0 تعليقات


السؤال: ما تقولون في عصيان بعض الأنبياء، وهذا منصوص عليه في القرآن والأحاديث؟ فآدم عصى ربه فغوى، ويونس ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه، وموسى وكز المصري فقضى عليه، وأيوب يمسه الشيطان بالنصب والعذاب، وغيرهم وغيرهم؟

الجواب: إن عندنا مسلمات عقلية ونقلية تكون بمثابة المنطلق لنا في قراءة أي نص من النصوص. من تلك المسلمات عدل الله وحكمته، ومنها أن عهد الله لا ينال الظالمين. ولو ركزنا النظر في الآيات التي ربما توهم ذلك التصور، لرأينا أن الله سبحانه، يمتدحهم مباشرة بعد وصفهم بالخطأ أو السهو والنسيان، وما شابه ذلك. ويمكن لك أن تراجع الآيات المتعرضة لهذه الحال، مثل معصية آدم، ودعاء نوح، وسؤال إبراهيم، وحزن يونس، واستغاثة يوسف وحيلته، ووكز موسى وغضبه وخوفه، وما إلى ذلك.
ففي قصة آدم عليه السلام نرى أن الله تبارك وتعالى يقول مباشرة في كتابه، بعد ذكر أكل آدم من الشجرة، قال عز من قائل: "وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه"[1]. وقال سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ"[2]. إذ الاصطفاء والاجتباء لا ينسجمان مع صدور المعصية والظلم.
فلو أننا وجدنا ما يتنافى مع هذه المسلمات المرجعية لكان لا بد من تفسيره على غير ظاهره، وإن لم يمكن أعرضنا عنه، وضربنا به عرض الجدار، وإن لم نفهمه، واحتملنا له محملاً مقبولاً، ولم نتوصل إليه، وكلنا أمره إلى أهل البيت، عليهم أفضل الصلاة والسلام، ليبينوا لنا جلية الأمر فيه.
ولو سبرنا الروايات الواردة عنهم صلوات الله عليهم في المقام، ودققنا النظر فيها، وقارنّا بعضها ببعض، لرأينا أنها في معرض بيان أمر آخر أعمق وأدق مما ينسبق إلى أذهاننا.
 وهذه المسألة كثيرة الذكر في الأحاديث أيضاً، وفي مواضيع مختلفة، فنراها تقول مثلاً إن الناس جميعاً ارتدوا ما خلا أربعة أو خمسة، وفي صورة أخرى تذكر أن الولاية حين عرضت على الأنبياء لم يقر بها إلا المرسلون، وعلى الملائكة فلم يقر بها إلا المقربون، وعلى المؤمنين فلم يقر بها إلا الممتحنون[3]. وفي بعضها: " إن  أمرنا صعب مستصعب لا يقر به إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو عبد قد امتحن الله قلبه  للإيمان"[4].
وواضح أن هذه الألفاظ تشير إلى مراتب عالية من الولاية والتسليم، بها يتفاوت فيه السابقون، ويتفاضل المرسلون، فإذا ما ذكرت الحسد، فإنها قطعاً لا تريد الحسد المعتاد، وإذا عَرضت إلى الجحود والإنكار، فهي حتماً تقصد معنى أعمق وأرقى رتبة من هذا الذي يتلبس به الظلمة والعاصون.
فآدم على نبينا وعلى آله وعليه السلام حين أطلعه الله، جلت أسماؤه، على منزلة أهل البيت، عليهم السلام، وأذهله ما رآه فيهم من علو المقام وعظيم المكان، تمنى في نفسه أن يكون له ما لهم. وهو أمر مطلوب في نفسه، جبل الله عليه الخلق، ليتمنوا الخير، وفي ذلك فليتسابق المتسابقون.
 لكن لما كانت هذه المسألة معجونة بالانقياد التام، والتسليم المطلق لمن خلق الله الكون لأجلهم، وجعلهم الحجة على العالمين أجمعين، صار مجرد تمني مكانهم يساوق الحسد في أحد معانيه العميقة الدقيقة. حيث إنه سيكون مشوباً، ولو في الملازمات البعيدة بسلب، أهل البيت (عليهم السلام) تفردهم بذلك المقام. والله سبحانه جعل الخلق جميعاً، بما في ذلك الأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون، فضلاً عن سائر المؤمنين، يدينون لمحمد وآل محمد بالولاء التام، والطاعة المطلقة. وما ذلك إلا لأن الله، عز وجل، علم بكمالهم وجمالهم الذي لا يمكن لأي مخلوق أن يبلغه أو يدانيه.
 وفي الحديث عن أئمة الهدى عليهم السلام: أن آدم كان تمنى منزلة النبي صلى الله عليه وآله، لا أكثر. فقد روي عن الإمام أبي الحسن الثالث عليه السلام قال: الشجرة التي نهى آدم وزوجته أن يأكلا منها، شجرة الحسد. عهد إليهما: أن لا ينظرا إلى من فضّله الله عليه، وعلى خلايقه بعين الحسد، ولم يجد له عزماً[5].
وعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام، في حديث طويل، قال: فلما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما: { كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ـ يعني شجرة الحنطة ـ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}[6].. فنظرا إلى منزلة محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة عليهم السلام بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنة، فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟!
فقال الله جل جلاله: إرفعا رؤوسكما إلى ساق العرش.
فرفعا رؤوسهما، فوجدا أسماء محمد، وعلي، وفاطمة، والأئمة عليهم السلام مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الله الجبار جل جلاله، فقالا: يا ربنا، ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك، وما أحبهم إليك، وما أشرفهم لديك!!
فقال الله جل جلاله: لولاهم ما خلقتكما. هؤلاء خزنة علمي، وأمنائي على سري، إياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد، وتمنيا منزلتهم عندي، ومحلهم من كرامتي، فتدخلان بذلك في نهيي وعصياني، فتكونا من الظالمين..
قالا: ربنا ومن الظالمون؟!
قال: المدعون لمنزلتهم بغير حق..
إلى أن قال: يا آدم ويا حواء، لا تنظرا إلى أنواري وحججي بعين الحسد، فأهبطكما عن جواري، وأحل بكما هواني، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا}[7].. إلى قوله: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}.. وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهم بعين الحسد، فخذلا حتى أكلا من شجرة الحنطة الخ[8]..
وعن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام، يا ابن رسول الله، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي: أنها الحنطة. ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟.
فقال عليه السلام: كل ذلك حق.
فقلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟!
فقال عليه السلام: يا أبا الصلت، إن شجرة الجنة تحمل أنواعاً. وكانت شجرة الحنطة، وفيها عنب، وليست كشجرة الدنيا. وإن آدم لما أكرمه الله تعالى ذكره بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة قال في نفسه: هل خلق الله بشراً أفضل مني؟
فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه: ارفع رأسك يا آدم، وانظر إلى ساق عرشي..
فرفع آدم رأسه، فنظر إلى ساق العرش، فوجد مكتوباً:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين. الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟
فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير منك، ومن جميع خلقي. ولولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنة والنار، ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، وتمنى منزلتهم.
فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما عن جواره إلى الأرض[9].
إن اختلاف التعبير في الأحاديث، فبعضها عبر عنه بالأكل والبعض الآخر بالحسد يجعلنا نفهم أن المقصود منه أمر مغاير لظاهر الحسد المتعارف.
 ومن هنا كان آدم ممدوحاً مستحقّاً للاصطفاء والاجتباء، ولكنه مع ذلك فعل ما لم يكن ينبغي لمثله أن يصدر منه، ولذلك لم يكن من أولي العزم من الرسل.
وهذا يطل بنا على مشهد من مشاهد عظمة أهل البيت عليهم السلام، وعلو مكانهم، بحيث أن الأنبياء مهما بلغوا لا يحق لهم حتى مجرد تمني مكانهم، فضلاً عن إمكان بلوغهم لمنزلتهم السامقة. ولذلك قالت الآية: "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا "[10]، فعبرت بلفظ النسيان، الذي لا ينسجم مع حقيقة الحسد المعروف، فإن الحسد إحساس باطني غير اختياري، سواء تذكر الإنسان أم نسي. وإذا كان هذا حال نبي الله آدم عليه السلام، الذي أسجد الله له الملائكة كلهم ، فكذلك الحال بالنسبة لغيره ممن لم يحصل له مثل ذلك؟!
وهذا البيان يجري أيضاً في سائر الأحاديث الأخرى المشار إليها في متن السؤال، عن يونس وأيوب وبعض الملائكة عليهم السلام أجمعين.


سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.

________
[1] (طه: 121-122).
[2] (آل عمران: 33).
[3] (بصائر الدرجات: ص 67).
[4] (بحار الأنوار، مصدر سابق: ج2 ص183 و185، ح2).
[5] ( تفسير نور الثقلين: ج3 ص402 عن تفسيري العياشي والبرهان: ج2 ص6).
[6] البقرة: 35.
[7] الأعراف: 20.
[8](نور الثقلين ج2 ص12. وراجع ج1 ص67 و68 عن معاني الأخبار وتفسير البرهان: ج1 ص82 و83).
[9] (تفسير نور الثقلين: ج1 ص60 عن عيون أخبار الرضا وتفسير البرهان: ج1 ص83 و84)).
[10] (طه: 115).



نبذة عن الكاتب

اكتب وصف المشرف هنا ..

اشتراك

الحصول على كل المشاركات لدينا مباشرة في صندوق البريد الإلكتروني

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية

back to top