الخميس، 22 يناير 2015

علم النبي (ص) بالغيب

من طرف طريق الفضيلة  |  نشر في :  10:37 م 0 تعليقات


السؤال: كيف يمكن القول بأن رسول الله يعلم الغيب، وهو بنفسه يقرّ بعدم العلم بصريح القرآن؛ كما في قوله تعالى: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء"؟

 

الجواب: لا يمكن فهم بعض القرآن بمنأىً عن سائر آياته، بل ولا بمنأىً عن المعلوم من السنة المطهرة، لعدم إمكان التعارض بين السنة وبين القرآن الكريم، ولو حصل التعارض من دون إمكان الجمع بينهما لوجب ضرب السنة عرض الحائط. وحينئذ لا بد من فهم النصوص القرآنية بعد ملاحظة كافة الآيات والروايات المتعرضة لنفس المسألة.

ثم إنه لا بد أن نبين، قبل كل شيء، المراد من الغيب الذي تنفي الآيات معرفة النبي صلى الله عليه وآله به، أو تثبته. ولا ريب أن المراد منه هو: ما كان غائباً عن حاضر الناس وحواسهم، والمقصود بعلمه هو: معرفته بالشيء على نحو اليقين لا بالرجم والظنون، كما يفعل المنجمون والكهنة، حيث يصيبون تارة ويخطئون تارة أخرى.

وفي هذا المجال، نحن نرى آيات عديدة، وروايات كثيرة، تصرح بأن النبي صلى الله عليه وآله كان على اطلاع على كثير من علوم الغيب، وهي غير العلوم المشهودة الاعتيادية عند الناس، كالإخبار بما سيحصل في مستقبل الأيام، حتى في آخر الزمان، والإخبار عن بعض مكنونات الأنفس، وكشف بعض المؤامرات التي كانت تحاك بعيداً عن أعين الناس ضده صلى الله عليه وآله، سواء من المنافقين المعروفين عند المسلمين، أو من غيرهم، وغير ذلك من الإخبار بالغيبيات. نستعرض بعضاً من تلك النصوص فيما سنذكر من جواب.

فإذا تم ذلك وثبت أنه جل وعلا قد أثبت ونفى، فلا بد أن نحمل كلامه على الصدق أولاً، والحكمة والبلاغة ثانياً، ورميه إلى المعاني الدقيقة والنبيلة ثالثاً. فهو الصادق العليم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف ينفيه مرة ويثبته أخرى؟ إلا أن يريد من النفي معنى ينسجم مع الإثبات، وإلا خرج عن كونه كلام صادق حكيم، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيرا.

فلا بد إذن من الجمع والتوفيق بين جهات كلامه عز وجل.

 

وجوه الجمع بين نصوص النفي والإثبات في علم الغيب:



 ويمكن القول بالجمع بينهما بأحد وجوه:

الوجه الأول: أن النصوص النافية، كالموجودة في متن السؤال، إنما تنفي علم الغيب عن غير الله بالأصالة، حيث لا يعلمه إلا الله بالأصالة، ولكن ربما أطلع بعض عباده عليه بالتبع، ولا ينافيه. وقد يعبر عنه البعض أيضاً بالعلم الذاتي في مقابل العرضي، أو الاستقلالي في مقابل التبعي، أو العرضي في مقابل الطولي.

 ومما يشير إلى هذا المعنى ويؤيده قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلاّ من ارتضى من رسول"[1]، وقوله: " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ"[2]. فالعلم الثاني من علم الغيب حتماً، لكن علام الغيوب هو الله وحده. ويمكن أن يطلق العلم بالغيب على الاثنين، ولكن مع حفظ المرتبة.

 وتتناغم معه أيضاً بعض الأحاديث التي تقول: إن المعصومين عليهم السلام يعلمون بالغيوب إذا توقفت عليها حاجتهم، فهم لا يسألون عن أمر ويقولون: لا نعلم، أبداً، أو أنهم إذا أرادوا أن يعلموا علموا؛ كما ورد ومنها في حديث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) قال: "إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه اللّه ذلك"[3]، وفي نفس الباب عشرات الروايات تحوم حول نفس المضمون.

الوجه الثاني: أن النافي إنما ينفي العلم المطلق عن غير الله، وأما غيره سبحانه، فمهما علم فإنه لا يطلق عليه أنه علم  الغيب المطلق وغي المحدود، بل علم بعضه دون بعضه الآخر. ويؤيده ما في النصوص من الآيات والروايات من اختصاص الله سبحانه بمسائل، لا يطلع عليها غيره، قال تعالى: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو"[4]، وكما قال علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، لما أخبر (عليه السلام) ببعض الأحداث التي ستقع في المستقبل، قال له بعض أصحابه: لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب!

 فضحك وقال للرجل، وكان كلبياً: "يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله: "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[5]؛ فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، أو قبيح أو جميل، أو سخي أو بخيل، أو شقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي". وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدده اللّه سبحانه بقوله: " إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... الآية".

ولا يبعد أن يكون المراد حتى في هذه الآية هذه الأمور الخمسة في الجملة لا بالجملة، فإن بعضها بات ممكن المعرفة، لكن في خصوص موارد بأعيانها، أما العالم المطلق لها على نحو الشمول والاستغراق فهو الله العليم الخبير وحده، ما عدا العلم بالساعة والله العالم.

الوجه الثالث: أن لله علمين وكتابين، هما كتاب المحو والإثبات وكتاب اللوح المحفوظ، فما يعرفه الله شامل للكتابين، وما يمكن أن يعرفه البشر فهو مختص بكتاب المحو والإثبات، وذلك بتعليم من الله. والمراد بلوح المحو هو ما يمكن أن يطرأ عليه التبدل، بسبب تأثره وتفاعله بالحوادث واختيارات العباد وأعمالهم، والمراد باللوح المحفوظ هو علم الله الذي يستحيل حصول التخلف فيه.

 ومما يشهد لذلك قول الإمام الصادق عليه السلام: " إنّ للّه علماً لا يعلمه إلاّ هو، وعلماً أعلمه ملائكته ورسله، فما أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه "[6]. ومثله ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام عن أبيه الإمام السجاد عليه السلام قال[7]: "لولا آية في كتاب اللّه لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة"، فقلت له: أيّة آية؟ فقال: قول اللّه: "يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب"[8].

 فالمنفي إذن من علم الغيب عن أنبيائه إنما هو العلم بما في اللوح المحفوظ، والمثبت هو العلم بما في لوح المحو والإثبات.

على أن هذا أيضاً في الجملة لا بالجملة، فإن لديهم صلوات الله عليهم من العلم بالثوابت ما أكدوه وأكدته النصوص كذلك. كإخبارهم على سبيل المثال بالمهدي وبعض علاماته الحتمية، وأنها من العلم الثابت الذي لا يقبل التغير والمحو والإثبات.

الوجه الرابع: أن المقصود من الآية هو الغيب الخاص، فقد كان نزول الآية بسبب خاص، وهو  طلب المكيين تحدياً له (صلى الله عليه وآله) أن يطلعهم على غلاء الأسعار ورخصها، لكي ينتفع من تغيرها ويتفادى الخسارة لنفسه، فقال لهم "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء"[9]. ويقصد الغيب حول تلك الأمور بالخصوص، وحول انتفاعه الشخصي كذلك. وعلى هذا يكون النفي في الآية عهديّاً لا يشمل كل غيب، وعليه يمكن أن نقيس ونحمل بعض الآيات التي تتطرق لحوادث ومصاديق خارجية، لا يمكن التعدي منها إلى غيرها. فتأمل

والوجه الخامس: وهو خاص بهذه الآية أيضاً: أن الجملة في الآية شرطية افتراضية، إذ هو صلى الله عليه وآله يقول: "لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء"، بمعنى أن النتيجة وهي الاستكثار من الخير وتجنب السوء تتم لو كان يعلم الغيب، وهو لم ينفه عن نفسه نفياً إخباريّاً، بل علقه على شرط وقيد، ينتفي المشروط بانتفائه، ويحصل بوجوده.

 وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله قد استكثر من الخير، فإن حياته المباركة في الحقيقة كلها خير، وكلها تجنب عن الشرور الحقيقية. وعلى هذا فهي تثبت العلم الغيبي له من طرف آخر. ولكن هذا الوجه يتوقف على زيادة مؤونة من التأويل، وهو غير بعيد إذا لم يتقاطع مع النصوص.

والخلاصة: أن ما ذكر من وجوه الجمع بين النصوص النافية والمثبتة لا يقتصر على نسبة علم الغيب للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله، بل يعم علم الأئمة المطهرين سلام الله عليهم أجمعين، وسائر الأنبياء والمرسلين. ولا مانع من أن يكون بعض هذه الوجوه مكمّلاً لبعض، بحسب اختلاف زوايا النظر، كما لا يمنع أن نحتمل وجوهاً أخرى غير ما ذكر تظهر بالمقارنة بين موارد الآيات والروايات. على أن في ما ذكرنا، فيما نرى، كفاية لرفع الشبهة المشار إليها في متن السؤال.


سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.



[1]  الجن: 26.

[2] يوسف: 3.

[3]  بحار الأنوار: ج26 ص57.

[4]  الأنعام: 65.

[5]  لقمان: 34.

[6]  بحار الأنوار، ج26، ص160، الحديث 5.

[7]  بحار الأنوار: ج4 ص118.

[8]  الرعد: 39.

[9]  الأعراف: 188.

التسميات :
نبذة عن الكاتب

اكتب وصف المشرف هنا ..

اشتراك

الحصول على كل المشاركات لدينا مباشرة في صندوق البريد الإلكتروني

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية

back to top