عظمة المناسبة
عيد الغدير من أعظم أعياد الإسلام عند أهل البيت صلوات الله عليهم، لأنه عيد الولاية العظمى التي بها تقبل الأعمال، ومن دونها ترد. وإن عظمة أي شيء إنما يكتسبها من أهمية أثره وفعله بالنسبة إلى ما ينتسب إليه. والإسلام وأي دين إنما تنبع قيمته من عظمة رسالته، وشرف الرسالة بعظمة تعاليمها. وهذه التعاليم لا سيما في الاسلام الخالد جيء بها لتبقى وتستمر، والله سبحانه لم يفرض ذلك بإرادته التكوينية، بل بإرادته التشريعية. ولذلك جعل فيها ضمانات تصونها من الضياع أوالتحريف. ولو شاء الله عز وجل لها البقاء بإرادته التكوينية لكان ما أراد. لكنه تقدست أسماؤه قضى بأن يحيل ذلك على البشر أنفسهم؛ قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ".
ولذلك وجدنا الأديان تنحرف عن خطها الأصلي، ويأتي من يدعي تمثيل الدين، ويحرف الكلم عن مواضعه، فإذا بالأديان بعد برهة من الزمن تدعو إلى ما كانت تتبرأ منه في أصلها. فالكعبة التي كانت أول بيت وضع للناس يدعوهم إلى التوحيد إذا به تنقلب إلى مركز يحتضن مئات الأصنام التي تعبد من دون الله!. والمسيح الذي أقر بعبوديته لله الواحد الأحد، ودعا الناس إلى عبادته صار المتسمون باسمه يدعون اليوم إلى الشرك والتثليث وينسبونه إليه، وهكذا اليهودية وسائر الأديان.
علي وصي النبي
ومن هنا نبعت أهمية الوصاية، بحيث لا يخلو نبي من وصي يخلفه في تفسير تعاليمه، وصيانتها من التحريف. وهذه حقيقة مسلَّمة ثابتة في كتب المسلمين جميعاً. أما الشيعة الإمامية فهو من ضروريات عقيدتهم التي قامت عليها الأدلة من العقل والنقل. ومن تلك الأحاديث كمثال فقط: ما عن أم هاني بنت أبي طالب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إنّ اللّه جعل لكلّ نبي وصياً؛ شيث وصي آدم، و شمعون وصي عيسى، و علي وصيي، وهو خير الأوصياء في الدنيا و الآخرة...».
وهو كذلك من ثوابت الأحاديث عند سائر المسلمين؛ فعن ابن عباس مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: هذا علي وصي رسول رب العالمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين. وعن سلمان قال: قلت: يا رسول الله إن لكل نبي وصياً فمن وصيك؟ فسكت عني فلما كان بعد رآني فقال: يا سلمان فأسرعت إليه قلت: لبيك قال: تعلم من وصي موسى قال: نعم يوشع بن نون قال: لم؟ قلت: لأنه كان أعلمهم يومئذ قال: فإن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب. وروى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة مثله عن أنس بن مالك. وقال النبي صلى الله وآله: لكل نبي وصي ووارث وصي ووارث وإن علياَ وصيي ووارثي.
وروى شمس الدين الذهبي بسنده عن أنس عن سلمان عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم أنه قال لعلي هذا وصيي وموضع سري وخير من أترك. وروى ابن الأثير عن بن بريدة عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال لكل نبي وصي ووارث وان عليا وصيي ووارثي
وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري عن سلمان قال: قلت ثم: يا رسول الله، لكل نبي وصي، فمن وصيك؟ فسكت عني. فلما كان بعد رآني، فقال: يا سلمان، فأسرعت إليه، قلت: لبيك! قال: تعلم من وصي موسى؟ قلت: نعم يوشع بن نون. قال: لم؟ قلت: لأنه كان أعلمهم. قال: فإن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب.
وروى ابن حجر العسقلاني عن أبي هريرة عن سلمان أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن الله لم يبعث نبياً إلا بيّن له من يلي بعده، فهل بيّن لك؟ قال: نعم على بن أبي طالب.
وقد صار هذا الأمر من المسلّمات عند علماء الجمهور ونقادهم المعروفين في علمي الحديث والرجال. فقد قال الذهبي (توفي سنة 748ھ): عن محمد بن جرير الطبري (توفي سنة 310ھ) أنه: جمع طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء رأيت شطره فبهرني سعة رواياته وجزمت بوقوع ذلك.
كما نفى أبو جعفر الأزدي الطحاوي (توفي سنة 321ھ): أي طعن في حديث الغدير، وقال: فهذا الحديث صحيح الإسناد، لا طعن لأحد في أحد من رواته فيه، أن كان ذلك القول كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بغدير خم في رجوعه من حجه إلى المدينة لا في خروجه لحجه من المدينة.
وقال ابن حجر العسقلاني (توفي سنة 852ھ): "وأما حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان، وقد روينا عن الإمام أحمد قال: ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علي بن أبي طالب. وقال في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام: وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلف فيه أضعاف من ذكر، وصححه واعتنى بجمع طرقه أبو العباس ابن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابياً أو أكثر.
وأما ناصر الدين الألباني المعاصر(توفي سنة 1420ھ)، فقد قال: "وللحديث طرق أخرى كثيرة جمع طائفة كبيرة منها الهيثمي في (المجمع) (9 / 103-108). وقد ذكرت وخرجت ما تيسر لي منها مما يقطع الواقف عليها بعد تحقيق الكلام على أسانيدها بصحة الحديث يقينا، وإلا فهي كثيرة جدا، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، قال الحافظ ابن حجر: منها صحاح ومنها حسان".
فالآيات والروايات إذن موضع اتفاق عند المسلمين، وهي صريحة وحازمة في إسباغ العظمة والأهمية لحادثة الغدير، لأنها نزلت في أواخر حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، ومن الطبيعي أن تثبت الخليفة من بعده، الذي من شأنه أن يحافظ على تركة النبي صلى الله عليه وآله، ويصون رسالته، وإلا فإن كل البناء الذي بناه النبي صلى الله عليه وآله بأمر الله سبحانه سوف ينهد، حتى لكأنه صلى الله عليه وآله لم يبلغ شيئاً.
وقد اختار الباري جل وعلا الحج لحِكَم بالغة وعديدة، وذلك لأن التجمع الذي يحصل فيه لا يحصل في غيره، ولأن تشريع الحج كان من آخر ما نزل، ولقداسة المكان والزمان، فلذلك لما أشرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الانتهاء من حجة الوداع والمسلمون معه وهم يزيدون على مائة ألف نسمة، نزل عليه الوحي ثلاث مرات بتنصيب أمير المؤمنين عليه السلام بخلافة النبي وإمارة المؤمنين. فقد نزل مرة عند وقوفه بالموقف، وأخرى في منى وهو في مسجد الخيف، وثالثة بعد أن انفصل عن الحرم وبلغ ميقات الجحفة، عند موضع يدعى غدير خم. وهذه المرة الثالثة كان في يوم الثامن عشر من ذي حجة الحرام.
ولم يكن هذا المكان بموضع إذ ذاك يصلح للنزول، لعدم وجود الماء فيه والمرعى، فنزل عليه الأمين جبرئيل (عليه السلام) عن الله بقوله تعالى: "يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ".
فنزل (صلى الله عليه وآله) ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، فأمر بدوحات هناك فكُنس ما تحتها وأمر بجمع الرحال فيه، ووضع بعضها فوق بعض.
ثم أمر (صلى الله عليه وآله) مناديه فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا إليه وإن الرجل منهم ليضع بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فلما اجتمعوا صعد (صلى الله عليه وآله) على تلك الرحال حتى صار في ذروتها، ودعا علياً (عليه السلام) فرقي معه حتى قام عن يمينه ثم خطب (صلى الله عليه وآله) الناس خطبة بليغة لم يسمع الناس بمثلها فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ الموعظة، ونعى إلى الأمّة نفسه،
وظل رسول الله يقول معاشر الناس، معاشر الناس، حتى وصل إلى قوله :
معاشر الناس، فما تقولون؟ قولوا الّذي قلت، وسلّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين، وقولوا: سمعنا وأطعنا، وقولوا: الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله .. معاشر الناس، إنّ فضائل عليّ عند الله عزّ وجل الذي قد أنزلها في القرآن أكثر من أن اُحصيها في مكان واحد، فمن أنبأكم بها فصدِّقوه.
معاشر الناس، من يطع الله ورسوله وعلياً أمير المؤمنين والأئمّة من ولده فقد فاز فوزاً عظيماً».
فناداه القوم: سمعنا وأطعنا أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا.
ثم إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نادى بأعلى صوته ويده في يد علي (عليه السلام) وقال: «يا أيّها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ ».
قالوا بأجمعهم: بلى يا رسول الله.
فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضبع علي (عليه السلام) حتى رأى الناس بياض ابطيهما، وقال على النسق من غير فصل: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من خالفه، وأدر الحقّ معه حيثما دار، ألا فليبلّغ ذلك منكم الشاهد الغائب، والوالد الولد».
ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين ثمّ زالت الشمس، فأذّن مؤذّنه لصلاة الظهر، فلما صلّى بهم جلس في خيمته وأمر عليّاً (عليه السلام) أن يجلس في خيمة له بازائه، ثم أمر (صلى الله عليه وآله) المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنّؤوه (عليه السلام) بالولاية، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعوه على ذلك.
ففعل الناس ذلك كلّهم يقولون له: بخّ بخّ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن على علي (عليه السلام) ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعنه على ذلك، ففعلن وسلّمن عليه (عليه السلام) وبايعنه بإدخال أيديهنّ في طشت فيه ماء كان قد أدخل علي (عليه السلام) يده فيه قبل ذلك.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
0 التعليقات:
إرسال تعليق