السؤال: هناك آيات قرآنية تصرح بكون الله في السماء، مثل قوله تعالى: " أأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور . أم أمنتم من في السّماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير" (الملك: 16-17)، وقوله: "يدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثمّ يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون" (السجدة: 5) فلماذا الاعتراض على هذه الفكرة القرآنية، والتي يشهد لها قوله سبحانه: " الرحمن على العرش استوى" (طه: 5)، وقوله: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" (فاطر: 10)، ويؤيدها رفع أيدينا نحو السماء لاستجابة دعواتنا، وحين عرج بالنبي عليه الصلاة والسلام عرج به إلى السماوات السبع، ووصل إلى السماء السابعة، وإلى العرش، وبلغ "قاب قوسين أو أدنى" من ربه؟ ويدل على ذلك أيضا من السنة قوله عليه الصلاة والسلام: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وفي حديث الجارية التي امتحنها رسول الله فسألها: أين الله؟ قالت: في السماء، ثم قال لها: ومن أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
الجواب: لا تدل النصوص والشواهد المذكورة على أن مكان الله سبحانه في السماء، وذلك لأمور من العقل والنقل:
الأول: أن الله سبحانه هو خالق السماء والأرض والكون وكل مخلوق، والسماء مخلوقة ومحدثة، فنسأل: أين كان الله قبل خلقها. بل وأين سيكون سبحانه بعد فنائها، لأن الله سبحانه يقول: " يوم نطوي السّماء كطيّ السّجلّ للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده"[1]. ولا أظن مدعي المكانية أن يقول بقدم السماء، وإلا حكم على نفسه بالشرك.
والثاني: أن هذه النصوص من الآيات والأحاديث تقابلها نصوص كذلك تدل على وجوده في الأرض وما بينهما، كقوله عز من قائل: "وهو الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم "[2] ، وقوله: "وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون"[3]، وقوله: "قل لمن ما في السموات والأرض قل لله"[4]، وقوله: "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم"[5]، وقوله: "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا"[6]، وقوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أين ما كانوا"[7].
والثالث: ماذا نفعل في الآيات التي تقول: إن الله أقرب إلينا من حبل الوريد؟ وهذا يفيد أمرين: الأول: أنه قريب منا وهو لا يتمشى مع القول بأنه في السماء وليس في الأرض، والثاني: أن هذا القرب لا معنى له مفهوما إلا على القول بأنه خارج المكان والزمان، وإلا إذا كان الله قريبا من البعيد عنا، فمن الطبيعي أن يكون بعيدا عنا، فكونه جلت عظمته قريبا من الكل لا بد أن يفسر بتفسير مختلف، خارج عن نطاق الزمان والمكان. ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين لتفسير القرب في قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون"[8]، بالقرب المعنوي الحقيقي، دون المادي. ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"[9].
الرابع: أن السماء في الواقع تشمل الأرض أيضا، فإن الأرض مدورة، وما يكون من إحدى جهاتها فوقا، هو تحت من جهة أخرى. وعليه فإن الأرض بنفسها تكون سماء أيضا، لأنها جرم من أجرامها، فما كنا قد نفيناه أثبتناه، وما أثبتناه نفيناه بنفس التقريب.
ثم كيف يستقيم هذا الزعم مع أن الله يقول: " وسع كرسيه السموات والأرض"[10]؟، إذ الكرسي يشمل السموات والأرض، ثم تذكر النصوص أن الكرسي كحلقة في فلاة داخل العرش. فكيف يكون سبحانه في السماء بينما هو مستو ومهيمن على العرش والكرسي.
إن أمثال هذه الألفاظ لا يراد منها ظاهرها حتما، بل يراد منها معناها العرفي المعتاد، وهو علو الله سبحانه المعنوي. ولهذه النكتة ترانا نرفع أيدينا مفتوحة نحو السماء، لا لشيء إلا لمكان الخيرات والرزق، كما قال عز وجل: "وفي السماء رزقكم وما توعدون"[11]، ولمكان العلو والسمو، كم أشرنا آنفا.
الخامس: لا يمكن القبول بكونه جل شأنه في السماء أو في الأرض أو فيهما معا، فإن لازم ذلك نسبة الجسمية له تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولازم الجسمية المحدودية، ولازم المحدودية الفقر والحاجة، ولازم الفقر والحاجة المخلوقية، سبحانه وتعالى عما يدعي المرجفون.
وأما حديث الجارية فهو أولا: ليس حجة علينا؛ لأنه مما رواه العامة في كتبهم، وهم من يحاسب عليه لا نحن.
وثانيا: حتى عند العامة هي غير ثابتة، وقد ناقشوها ونقدوها متنا ودلالة وسندا، فإنها مروية بعدة صور، منها: أنه صلى الله عليه وآله سألها عن الله وعن الشهادتين فأجابت، ولم يسألها بناء على بعض الروايات عن مكان الله. وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
وثالثا: حتى على تسليم الرواية لا يمكن الحكم بها لأن النبي صلى الله عليه وآله إنما ادرك من كلامها أنها مؤمنة بالله وحده، ولم تكن تعتقد بالأصنام أربابا من دون الله.
ورابعا: سلمنا دلالة الحديث وصحة طريقه، ولكن مع ذلك لا يمكن أن يكون خبر الآحاد مستندا وحيدا للعقائد الخطيرة، ولا سيما في أصل العقيدة، وهو صفات الله عز وجل.
فتبين مما تقدم أن المراد من الظرفية في مثل (في السماء) أو (في الأرض) إنما هو الهيمنة والعلم والإحاطة، ومن الاستعلاء والفوقية، فوقية المكانة لا فوقية المكان، وواضح أن الله هو الأعلى والعلي والمتعالي، ولا يمكن أن يوصف بالأسفل والسافل، وليس المقصود بذلك اللحاظ الفلكي والجغرافي حتما، وإلا فكما بينا أن الذي نشير إليه نحن تلقاء الأعلى، يكون بالنسبة لمن هم في الطرف الآخر من الأرض تحت أرجلهم.
ثم هنا مسألة هامة خاطب الله الناس على وفقها، وبناء عليها، وهي: أن السماء بما فيها من أجرام، وأفلاك وشمس وقمر وغيوم ورياح، كل أولئك يشكل مصدر الخير والرزق، والسخط والغضب، بشكله الظاهري الملموس، وكما قال الله سبحانه: "وفي السماء رزقكم وما توعدون"[12]. ومحاكاة الناس بلغتهم ووفق ما يتخاطبون أليق وأولى.
وأما حديث المعراج وآياته فالكلام فيهما يطول، والقول الراجح فيها أن القرب إما أن يكون من جبرئيل عليه السلام، أو - وهو القول الأرجح - أن يكون القرب من الله سبحانه، ولكن من مقامه المعنوي، وحاش لله أن يكون له مكان مادي محسوس.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
__________
[1] (الأنبياء: 104).
[2] (الزخرف: 84).
[3] (الأنعام: 3).
[4] (الأنعام:12).
[5] (البقرة: 115).
[6] (النساء: 108).
[7] (المجادلة: 7).
[8] (البقرة: 186).
[9] (الكافي ج3: ص323|7 باب السجود والتسبيح والدعاء. مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله: 1/350 ، رقم 482).
[10] البقرة: 255.
[11] (الذاريات: 22).
[12] (الذاريات: 22).
0 التعليقات:
إرسال تعليق