السؤال: هل فعلاً عصى آدم ربه؟ وإن كان كذلك فما هو تفسير قوله تعالى: "وعصى آدم ربه فغوى"؟ وما معنى أكله من الشجرة؟ وعقاب الله له بخروجه من الجنة؟ وما معنى توبة الله عليه؟
الجواب: ليس العصيان هنا عصياناً بالمعنى العرفي الذي يستوجب العقاب والذم، فإن الله سبحانه لم يأمره أمراً مولويّاً، بل هو أمرٌ إرشاديٌّ بحت، كحال الأوامر والنواهي الإرشادية الكثيرة، التي تعني وجود منافع ومفاسد تعود على الإنسان في نفسه أو روحه أو بدنه. فإن تمثلها الإنسان كان ممدوحاً، وإن لم يؤدها لم يلحق به ذم، لكن الأثر التكويني يقع عليه لا محالة إذا كانت حتمية. كمن شرب السم فإنه يموت، ومن وقع من ارتفاع شاهق تتحطم عظامه، ومن نام في غرفة مغلقة تسرب إليها الغاز الخانق يختنق. وهذه الأمثلة تجتمع فيها الأوامر المولوية مع الأوامر الإرشادية العقلية. فمخالفتها تعد مخالفة للأوامر المولوية أيضاً. لأن الأوامر المولوية هي التي تنبعث من المولى بما أنه مولى تجب إطاعته، والأوامر الإرشادية البحتة هي التي تصدر من المولى أو غيره على سبيل النصيحة والإشفاق. ومخالفة الأولى تستعقب الغضب والعقاب وأحياناً مجرد العتاب، بينما مخالفة الثانية لا تستعقب سوى الأثر التكويني الموجود فيها.
والأوامر المولوية غير الإلزامية (الاستحبابية والكراهية) كتلك التي تأمر مثلاً بشرب الماء من قيام في النهار، ومن جلوس في الليل. ومثله ما يذكر من كراهة لحم البقر والإبل، أو استحباب أبوال الإبل، وغيرها كثير، فإن وراءها منافع ومضار ولا شك. ومع ذلك فإن عدم الالتزام بها لا يستوجب العقاب والمذمة عند الشارع المقدس. نعم أن يقال بأنها ربما لا تخلو من العتاب، أو عدم ترفيع الدرجات.
أما الأوامر الإرشادية المحضة فلا عقاب فيها ولا عتاب ولا تجميد في الدرجات كذلك. لكنها في لغة التخاطب مع ذلك تدعي معصية ومخالفة. ومن هنا يصح أن تنفى عنها العصيان، وأن تثبت في آن واحد. والمصحح هو اختلاف اللحاظ.
تقول لأخيك لا تشرب الماء البارد بعد الحار، فلو شربه قلت له: عصيتني فانتظر الألم في أسنانك. لا تتزوج هذه المرأة، فإذا تزوجها ولم يستقر أمره معها، قلت لهك ألم أنهك؟ ألم آمرك؟ لكنك عصيتني!.
وكما قال الشاعر:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
هذا بالنسبة إلى آحاد الناس العاديين.
أما إذا كان الكلام عن الأنبياء المعصومين الذين اصطفاهم الله سبحانه، ولا سيما ونحن نرى القرآن يمتدحهم ويطريهم قبل تلك المخالفة المذكورة وبعدها، فلا بد من حمل الألفاظ فيها على معنى يجري في هذا السياق، وإلا لزم التنافي في كلام الله الحكيم، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. وكما يقول الإمام الحسين الشهيد عليه السلام: فإن "كتاب اللّه ـ عز وجلّ ـ على أربعة أشياء: على العبارة والاشارة واللطائف والحقائق. فالعبارة للعوام، والاشارة للخواص، واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء" ( بحار الانوار 92 : 20).
ومعنى ذلك أن في القرآن وراء العبارات والألفاظ ثمة إشارات وإيماءات يدركها ذوو الفكر والتدبر. بل ووراء تلك الإشارات لطائف وحقائق، لا يمسها إلاّ الأولياء والأنبياء. فكل مرحلة من الفهم تحتاج إلى قلب يتناسب معها من الوعي والشفافية. يقول الإمام الباقر عليه السلام: "إن للقرآن بطناً، وللبطن بطن، وله ظهر، وللظهر ظهر،... وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل يتصرف على وجوه" (البحار: 92 / 20 / 18 وص 95 / 48).
ومما يؤكد هذا المعنى: أن الله سبحانه ما زال يمتدح نبيه آدم من قبل خلقه، ويدافع عنه أمام ملائكته، الذين كانوا يتوقعون صدور المعصية منه والفساد، ثم أسجد له الملائكة كلهم أجمعين. بل ونفاجأ بأن ذلك المديح والإطراء يستمر بنفس الوتيرة بعد حادثة الأكل من الشجرة، حيث يعود سبحانه على آدم ليجتبيه ويبعثه نبيّاً، ولو لم يكن أهلاً للنبوة لما بعثه، ولو كان عاصياً لما كان أهلاً.
ثم إن الله سبحانه يخبرنا بأنه اصطفاه مع ثلة قليلة من خلقه على العالمين، حيث قال: " إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" (آل عمران: 33)، ولا معنى لاصطفائه على الخلق ما دام عاصياً.
من هنا فلا محيص عن القول: إن لفظ المعصية وإن كان صحيحاً، إلا أن آدم في نفس الوقت غير عاص، وإلا لزم التهافت والتنافي بين الآيات.
فإن قيل: إن الله تعالى رتب على المعصية المذكورة أمرين هامّين: الأول انكشاف السوءات لآدم وزوجه في الجنة، والثاني: خروجهما من الجنة بوسواس الشيطان، وعدم إطاعة الله عز وجل.
فالجواب: أولاً: أن هذا يؤكد ما قلناه من أن عاقبة مخالفة آدم وزوجه عليهما السلام ليست إلا أمراً دنيوياً تكوينياً، ولا أثر لها في الآخرة. وكل الآيات التي عاتبت تثبت أن المطب الذي وقع فيه آدم هو مطب إرشادي دنيوي بحت.
وثانياً: ما ذكرناه من آيات مادحة له قبل الواقعة وبعدها لا تنسجم مع وقوعه في الخطيئة والمعصية.
وثالثاً: أن هبوطه إلى الأرض، بل وظهور سوءاتهما لهما، كلاهما أمران محتومان محسومان منذ البداية، أي قبل أن يدخلا الجنة؛ فإن الله جل وعلا حين أراد أن يخلق آدم قال للملائكة: إني أريد أن أجعل خليفة لي في الأرض، لا في الجنة. وجواب الملائكة أيضاً كان متوجهاً إلى من كان يعيش على سطح الأرض، لا في ظلال الجنة؛ قال عز من قائل: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 30).
وعلى هذا تكون قضية المخالفة في الجنة أعمق بكثير مما يتصور البعض؛ ولعلها تحكي أسراراً عديدة، ليس هذا مجال الدخول فيها. ولكن منها - والعلم عند الله – أنه جلت حكمته بعد أن حصل ما حصل من إبليس من معصيته وتهديده للبشر بالإغواء والإضلال، اقتض الأمر أن يُظهر نبيه آدم على خبث الشيطان وقدرته على التشكل والوسوسة، فكان ما كان في الجنة كأول تجربة، بعيداً عن الأوامر المولوية، ولسرعة الأثر وظهوره في تلك الجنة (الخاصة)، كيما يكون عبرة واضحة لآدم ومن يأتي بعده من ذريته. ولعله لذلك قص الله جل وعلا لنا تلك التجربة الأولى، التي لا تفرق بين وليّ لله وغيره إذا لم يحترس من إبليس وعداوته.
غير أن هذه التجربة أظهرت لنا أن الشيطان بنفسه لم يتمكن من نبي الله إلا بوسائل تنطلي حتى على المقربين، لأنه حلف بالله في أول حلف كاذب في التاريخ، ولم يكونا يتوقعان أن يحلف أحدٌ بالله كاذباً، ثم إنه طمعهما بكونهما ملكين مطيعين لله خالدين في الطاعة والعبادة، فهو مما يطمع فيه العبد المخلص المقبل على الله. هذا مع أن النهي لم يكن صريحاً في الأكل، لأن الله تعالى يقول: "ولا تقربا هذه الشجرة" ولم يقل على الصراحة: ولا تأكلا من هذه الشجرة، وحينما أكلا قال سبحانه: "فلما ذاقا الشجرة" من دون اسم الإشارة، مما يفسح المجال لاحتمال كونها من جنس الشجرة لا عينها. كما أن النهي لم يكن نهياً مولويّاً أيضاً، حيث ذكرت الآيات نتيجته، وهي أن يكونا ظالمين لأنفسهما، وأن يخرجا من الجنة التي لم تكن جنة الخلد، فتنحصر العاقبة في أن يشقيا بالتعب والكد على أنفسهما، لا في العقوبة الإلهية لا قدر الله. قال سبحانه: "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى" (طه: 117)، وقال: " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" (البقرة: 35).
ومن الملفت هنا:
1- أن الآيات تركز على أن النهي كان عن شجرة بعينها، ولم يكن عن جنس، فلم تقل الآيات مثلاً: ولا تقربا شجر الحنطة، أو شجر العنب، أو أي شجر آخر. بل قالت: "لا تقربا هذه الشجرة" (البقرة: 35)، وقالت: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة" (الأعراف: 22).
2- أن الله سبحانه حين نهاهما عن تلك الشجرة لم يربط بين النهي وبين عداوة إبليس، ولعل آدم عليه السلام أُخذ من هذا الباب، حيث لم يتوقع أن يأتيه الشيطان الماكر في صورة الرفيق المشفق.
فكأن هذه التجربة المحسومة النتيجة كانت ضرورية لتعريف الخلق الجديد بمكر الشيطان وعداوته، في ذلك العالم الموقت، الذذي لم ينشأ للمكوث فيه والبقاء. لذلك لم نر أي علامة على الغضب الإلهي على النبي الأول للبشرية، بل زكاه وتاب عليه؛ قال سبحانه: "ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (طه: 122)، وبيّن لنا القرآن أن تلك التجربة كانت لازمة وضرورية ليعرف البشر بعد آدم خبث الشيطان ومكره، فقال جل وعلا: " قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى" (طه: 123).
نعم لا بد من التنبيه إلى أن أحد أسباب بيان هذه الآيات التي ظاهرها المخالفة لسائر الأنبياء هو إظهار فضل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم عليهم جميعاً، حيث لم يصدر حتى مثل تلك المخالفات الدقيقة، والله تعالى هو العالم.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف
1 التعليقات:
بارك الله فيكم بحث رائع ومفيد
إرسال تعليق