السؤال: لماذا عاقب الله يونس بهذه العقوبة الشديدة؟ هل كان عاصياً والعياذ بالله؟
الجواب: إن كل ما جاء في القرآن مما ظاهره صدور المعصية من الأنبياء لا يمكن حمله على المعصية، لأن الله سبحانه طهرهم، ولم يصطفهم ويجتبِهم للنبوة إلا بعد أن علم صلاحهم وصلاحيتهم لتحمل أعباء هذا الحمل الثقيل، الذي تنوء منه الجبال الرواسي. ثم إنه سبحانه ما زال يمتدحهم عليهم السلام قبل أمثال هذه الحوادث وبعدها، مما يشهد بأنهم ثابتون على تلك الطهارة والعصمة، مستحقون للاجتباء والاصطفاء.
ثم إن الابتلاء والامتحان يكون على قدر القرب. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل" (الكافي: ج2 ص252 ح1). وعن الإمام الباقر عليه السلام: "بعث الله نبيّاً حبشيّاً فقاتلهم فقتل أصحابه وأُسروا، وخدّوا لهم أخدوداً من النار، ثم نادوا: من كان من أهل ملتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبي فليقتحم النار، فجعلوا يقتحمون النار، وأتت امرأة معها صبي لها، فهابت النار، فقال لها صبيها: اقتحمي، فاقتحمت النار، وهم أصحاب الأخدود" (نور الثقلين: ج5 ص547 ح30). وقد ورد هذا المعنى في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه"( الكافي، ج2، ص254).
ومن هنا كانت دعوة الإمام الباقر عليه السلام للشخص الذي ادعى محبته بأن يستعد للبلاء، فقد جاء في الحديث ان رجلاً قال له: والله إني لأحبكم أهل البيت، فقال له عليه السلام: "فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه لأسرع إلى شيعتنا من السيل في الوادي"( مستدرك الوسائل، ج2، ص437).
وفي الحديث الآخر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: فيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن: "يا موسى ما خلقت خلقاً أحب إليّ من عبدي المؤمن، وإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعطيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليرض بقضائي، وليشكر نعمائي، أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري"( كتاب المؤمن، الحسين بن سعيد، ص17).
فحب الله للأنبياء، وقربهم منه سبحانه هو الذي يؤهلهم لهذه الابتلاءات الثقيلة والصعبة. كما فعل لإبراهيم الخليل عليه السلام، حينما ابتلاه بابتلاءات لا يتحمل المرء سماعها، فكيف بتصور وقوعها فعلاً.
غير أن الله جل جلاله لا يكلف نفساً إلا وهو يعلم بقدرتها على تحمل ثقله، سواء أكان ذلك الابتلاء ابتدائيّاً منه سبحانه كما وقع مثله لإبراهيم وأيوب، أو تأديبيّاً، كما حصل بالنسبة لعدد من الأنبياء، ومنهم يونس عليه السلام.
على أن هذا الجزاء والتأديب لم يكن لذنب ارتكبه يونس، أو لجرم اقترفه، بل لسير تكاملي رآه الله أهلاً له فأفاضه عليه. وهو يعلم قدرته عليه، وليباهي به أمام عباده الصالحين، حين يظهر صفاءُ معدنه، الذي لم تزده كثرة البلاء إلا إيماناً وخشوعاً. فهو حين يرى الحوت يعلم أنه هو المقصود، فيذعن لإرادة الله، ويعلم أن ثمة خطوة لم يتقدم بها نحو سلّم الصعود والتكامل الخاص. وحين يلتقمه الحوت يعترف في الظلمات بتقصيره وقصوره، ويستشفع الله بإلاهيته، ولم نر أنه احتج على ربه بصدق نيته، وجواز فعلته، مع ما واجهه من الظلم والسخرية والتنكيل من قبل قومه طوال عشرات السنين، وهو يدعوهم في صبر وأناة، ولم يركز على نجاة نفسه وخلاصها من ذلك السجن الفظيع ، مع ما كان فيه في بطن الحوت من ضيق واختناق، بل أقرّ لله سبحانه بأنه من الظالمين لنفسه، وأن الخير والحق والعدل فيما يختاره الله، "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" (الأنبياء: 87)، فهلل الله وسبحه واعترف له بذنبه.
وهذا الذي قدمناه لا يتنافى مع لسان بعض الآيات التي يبدو منها الوعيد والتهديد، لأن مقام النبي كان يستدعي في حكمة الله عز وجل أن يعرضه لمثل هذا الموقف، لكنه لم يَعْن ركوبه للذنب والمعصية، فإن الله سبحانه يخبرنا بمقام يونس العالي في سورة الأنعام حين يقول: "وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأنعام: 86).
لكن يمكن القول إن المراتب المحفوظة للمعصومين لا تنفي أن يكون بعضهم أفضل من بعض، كما قال سبحانه: " وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ" (الإسراء: 55). بل لا نأتي بجديد إذا قلنا: إن هذه الآيات وأمثالها حول الأنبياء كأنما الحكمة من مجيئها في الكتاب العزيز أن تُظهر فضل أهل البيت وأولهم رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين على سائر الأنبياء والمرسلين.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
الجواب: إن كل ما جاء في القرآن مما ظاهره صدور المعصية من الأنبياء لا يمكن حمله على المعصية، لأن الله سبحانه طهرهم، ولم يصطفهم ويجتبِهم للنبوة إلا بعد أن علم صلاحهم وصلاحيتهم لتحمل أعباء هذا الحمل الثقيل، الذي تنوء منه الجبال الرواسي. ثم إنه سبحانه ما زال يمتدحهم عليهم السلام قبل أمثال هذه الحوادث وبعدها، مما يشهد بأنهم ثابتون على تلك الطهارة والعصمة، مستحقون للاجتباء والاصطفاء.
ثم إن الابتلاء والامتحان يكون على قدر القرب. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل" (الكافي: ج2 ص252 ح1). وعن الإمام الباقر عليه السلام: "بعث الله نبيّاً حبشيّاً فقاتلهم فقتل أصحابه وأُسروا، وخدّوا لهم أخدوداً من النار، ثم نادوا: من كان من أهل ملتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبي فليقتحم النار، فجعلوا يقتحمون النار، وأتت امرأة معها صبي لها، فهابت النار، فقال لها صبيها: اقتحمي، فاقتحمت النار، وهم أصحاب الأخدود" (نور الثقلين: ج5 ص547 ح30). وقد ورد هذا المعنى في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه"( الكافي، ج2، ص254).
ومن هنا كانت دعوة الإمام الباقر عليه السلام للشخص الذي ادعى محبته بأن يستعد للبلاء، فقد جاء في الحديث ان رجلاً قال له: والله إني لأحبكم أهل البيت، فقال له عليه السلام: "فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه لأسرع إلى شيعتنا من السيل في الوادي"( مستدرك الوسائل، ج2، ص437).
وفي الحديث الآخر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: فيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن: "يا موسى ما خلقت خلقاً أحب إليّ من عبدي المؤمن، وإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعطيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليرض بقضائي، وليشكر نعمائي، أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري"( كتاب المؤمن، الحسين بن سعيد، ص17).
فحب الله للأنبياء، وقربهم منه سبحانه هو الذي يؤهلهم لهذه الابتلاءات الثقيلة والصعبة. كما فعل لإبراهيم الخليل عليه السلام، حينما ابتلاه بابتلاءات لا يتحمل المرء سماعها، فكيف بتصور وقوعها فعلاً.
غير أن الله جل جلاله لا يكلف نفساً إلا وهو يعلم بقدرتها على تحمل ثقله، سواء أكان ذلك الابتلاء ابتدائيّاً منه سبحانه كما وقع مثله لإبراهيم وأيوب، أو تأديبيّاً، كما حصل بالنسبة لعدد من الأنبياء، ومنهم يونس عليه السلام.
على أن هذا الجزاء والتأديب لم يكن لذنب ارتكبه يونس، أو لجرم اقترفه، بل لسير تكاملي رآه الله أهلاً له فأفاضه عليه. وهو يعلم قدرته عليه، وليباهي به أمام عباده الصالحين، حين يظهر صفاءُ معدنه، الذي لم تزده كثرة البلاء إلا إيماناً وخشوعاً. فهو حين يرى الحوت يعلم أنه هو المقصود، فيذعن لإرادة الله، ويعلم أن ثمة خطوة لم يتقدم بها نحو سلّم الصعود والتكامل الخاص. وحين يلتقمه الحوت يعترف في الظلمات بتقصيره وقصوره، ويستشفع الله بإلاهيته، ولم نر أنه احتج على ربه بصدق نيته، وجواز فعلته، مع ما واجهه من الظلم والسخرية والتنكيل من قبل قومه طوال عشرات السنين، وهو يدعوهم في صبر وأناة، ولم يركز على نجاة نفسه وخلاصها من ذلك السجن الفظيع ، مع ما كان فيه في بطن الحوت من ضيق واختناق، بل أقرّ لله سبحانه بأنه من الظالمين لنفسه، وأن الخير والحق والعدل فيما يختاره الله، "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" (الأنبياء: 87)، فهلل الله وسبحه واعترف له بذنبه.
وهذا الذي قدمناه لا يتنافى مع لسان بعض الآيات التي يبدو منها الوعيد والتهديد، لأن مقام النبي كان يستدعي في حكمة الله عز وجل أن يعرضه لمثل هذا الموقف، لكنه لم يَعْن ركوبه للذنب والمعصية، فإن الله سبحانه يخبرنا بمقام يونس العالي في سورة الأنعام حين يقول: "وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأنعام: 86).
لكن يمكن القول إن المراتب المحفوظة للمعصومين لا تنفي أن يكون بعضهم أفضل من بعض، كما قال سبحانه: " وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ" (الإسراء: 55). بل لا نأتي بجديد إذا قلنا: إن هذه الآيات وأمثالها حول الأنبياء كأنما الحكمة من مجيئها في الكتاب العزيز أن تُظهر فضل أهل البيت وأولهم رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين على سائر الأنبياء والمرسلين.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
0 التعليقات:
إرسال تعليق