السؤال: هل حديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" صحيح، فإننا نجد بعض علماء العامة ينفون صحته، بل وبعضهم ينفي كونه حديثاً اصلاً؟
الجواب: هذا الحديث مقطوع الصدور، يستند فيه إلى التواتر، فضلاً عن دعوى الصحة أو الاعتبار، وعند جميع فرق المسلمين، لولا التعصب الأعمى، وما يجره على الإنسان من مجافاة الحق، ومعاندة الحقيقة. بل ويمكن إثباته والاستدلال على مضمونه بوقائع التاريخ الثابتة، حتى لو لم يكن لألفاظه وجود باعتباره حديثاً مرويّاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس الأمر متوقفاً على هذا اللفظ حتى يمكن طمس الحقيقة، بمجرد التشويش على صحة الحديث، وأعجب منه أن ينفى الحديث، بل الحقيقة، لمجرد عدم وروده في كتابي البخاري ومسلم!
فإن كون علي بن أبي طالب عليه السلام باباً لعلم النبي صلى الله عليه وآله هو من المسلمات، والنصوص فيها كثيرة، وبألسنة مختلفة، لكنها كلها تقود إلى هذه الحقيقة، من قبيل قوله سبحانه: " ومن عنده علم الكتاب"[1]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أقضاكم علي"[2]، وقوله: "علي مع الحق والحق مع علي"[3]، وكونه (عليه السلام) قد رجع إليه جميع الصحابة، ولم يؤثر عنه أنه رجع إلى صحابي قط، في مسألة أشكلت عليه.
ومن قبيل ما رواه الحاكم النيسابوري عن أبي إسحاق قال: سألت قثم بن العباس كيف ورث علي رسول الله (صلى الله عليهما وآلهما) دونكم قال: لأنه كان أولنا به لحوقاً وأشد به لزوقاً[4].
وما نقله الحاكم أيضاً بسنده إلى ابن عباس: كان علي(عليه السلام) يقول في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله): "أَفَإنْ مَاتَ أَوْ قتلَ انْقَلَبْتمْ عَلَى أَعْقَابكم"[5]، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه فمن أحق به مني"[6].
وما اشتهر عنه (ع) من قوله: "سلوني قبل أن تفقدوني"[7]، وما أكثر ما نقل عن عمر بن الخطاب قوله "لولا علي لهلك عمر"[8]. بل أثر ذلك حتى عن أبي بكر[9]، وعثمان[10]. وحديث الثقلين[11]، الذي يعني عدم ارتكاب أهل البيت (صلوات الله عليهم) ما ينافي العصمة، وحديث السفينة[12]، الذي يعطي نفس المعنى.
فهذه الأحاديث، بل الحقائق، كلها روافد تصب في نهر حديث مدينة العلم، لتؤكده وتشيد بنيانه، حتى لو لم يكن الحديث المذكور موجوداً أصلاً، فكيف وقد روي الحديث بطرق كثيرة، وعند الفريقين جميعاً. بل ونص على صحته واعتباره جهابذة علم الحديث والدراية ونقادهما من أهل السنة فضلاً عن الشيعة، مع أن الحديث مما يدعونه بأخبار المناقب والفضائل، التي جرت عادتهم على التساهل في قبولها والتسامح فيها[13].
لكن السر في اعتراض القوم عليه واضح، فإنه ينسف بصراحة عقيدتهم، ويجعلهم في موقف حرج أمام سيل جارف من الأسئلة التي لا أول لها ولا آخر. فإذا كان علي عليه السلام هو باب علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يمكن الوصول إلى علم النبي (صلى الله عليه وآله) إلا عبر ذلك الباب، فكيف يمكن تفسير عزوف سائر المسلمين عن علم أمير المؤمنين (عليه السلام)؟، أم كيف يمكن نفي فضله وخصوصيته، وعدّه كواحد من عامة المسلمين؟! خصوصاً وأن الحديث يدين الأخذ عن غيره، حيث يقول: " فمن أراد المدينة فليأت الباب"[14]، وفي رواية الإمام الحسن (ع): "وهل تُدخل المدينة إلا من بابها ؟ "[15]!.
وكيف كان فنحن نورد الحديث من طريق أهل السنة مع تعليقات كبار رجالييهم ممن عبروا عنه بالصحيح أو المتواتر، كمثال فقط، على ثبوت النص المذكور:
والحديث رواه ابن المغازلي، عن محمد بن أحمد بن عثمان، عن أحمد بن إبراهيم عن محمد بن حميد، عن محمد بن محمد بن عثمان، عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب".
قال العلامة المجلسي[16]: رواه من الكتاب المذكور بأربعة أسانيد أخرى إلى ابن عباس، ثم عضد الحديث بحديث آخر رواه مسنداً عن حذيفة عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فلا تؤتى البيوت إلا من أبوابها"[17]. وروى ثالثاً بسند مختلف أيضاً عن حذيفة عنه عليه السلام مثله. كما روى أيضا حديثاً رابعاً بإسناده عن علي بن موسى الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا علي أنا مدينة العلم وأنت الباب، كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من الباب"[18]. وهكذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها"[19]. وبلفظ: (دار الحكمة وبابها)، وأيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا دار الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب. وروى عن سلمة بن كهيل عن علي عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله مثله[20].
وها أنت ترى تعدد الأسانيد، وكلها تتمحور حول لفظ واحد أو معنى واحد، مما يفيد تواتره، أو لا أقل من استفاضته والاطمئنان إلى صدوره، ومن ثم الاستغناء عن البحث في سنده.
ومع كل ذلك فسند الحديث قوي، وقد صححه جملة من علماء الجرح والتعديل عندهم، كالحاكم النيسابوري ويحيى بن معين، وحسّنه الحافظ ابن حجر والحافظ العلائي، واستنكروا على من رده وكذبه وأبطله. قال الحافظ ابن حجر في لسانه: هذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقل أحوالها ان يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع!.
وقال عنه في موضع آخر: أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: إنه صحيح. وخالفه ابن الجوزي؛ فذكره في الموضوعات، وقال: إنه كذب. والصواب خلاف قولهما معاً، وإن الحديث من قسم الحسن لا يرتقي إلى الصحة ولا ينحط إلى الكذب[21].
وقال المتقي الهندي بعد أن نقل كلام الحافظين العلائي وابن حجر وتحسينهما للحديث: "وقد كنت أجيب بهذا الجواب دهراً إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث علي في تهذيب الآثار مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عباس فاستخرت الله وجزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحة والله أعلم... إهـ"[22].
وأما خرِّيت هذا العلم عندهم أعني: يحيى بن معين فقد حكم بصحته - كما نقل ذلك عنه الحاكم النيسابوري - بعد أن أوضح وثاقة رواته، كأبي الصلت الهروي، وقال إنه ثقة وصدوق، كما رواه الحاكم عنه فقال مرةً: بأن أبا الصلت ثقة، ومرة: صدوق، وأن محمد بن جعفر الفيدي الثقة، قد رواه عن أبي معاوية عن الأعمش. قال: فلا خلل في السند كله[23]**.
ويجدر بالذكر أن العلامة اللكنوي قد صنف في خصوص هذا الحديث وصحته جزءين ضخمين، في 1345 صفحة، وقد طبعا معاً في المجلد الخامس من موسوعته الهامة المسماة بعبقات الأنوار، كما ألّف أحد علماء المغرب العربي وهو الشيخ أحمد بن الصديق المغربي كتاباً خاصاً في تصحيح الحديث المذكور أسماه «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي».
ثم إن كلمة (العلم) حيث وردت في الحديث محلاة بالألف واللام، ومن دون أي قرينة تصرفها إلى العهد، فهي محمولة على الجنس والاستغراق، بما يعني أنه صلى الله عليه وآله هو مدينة كل العلوم، وعلي بابها. وهو ما تؤيده النصوص الكثيرة.
"
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
______
[1] (الرعد: 43)
[2] ( والاستيعاب ج3 ص206 ط دار الكتب العلمية. والصواعق المحرقة ج2 ص358 ط مؤسّسة الرسالة بيروت).
[3] ( السمعاني في كتاب فضائل الصحابة. ومجمع الزوائد: ج7 ص235)،
[4] المستدرك على الصحيحين: 3/136، حديث 4632، دارالكتاب العلمية، بيروت؛ خصائص أميرالمؤمنين عليه السلام، ص 161) وصححه ووافقه الذهبي.
[5] (آل عمران: 144)
[6] (أخرجه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين بعدة أسانيد، والحمويني في فرائد السمطين ح 157، وأحمد في الفضائل ح 232 والطبراني في المعجم الكبير من ترجمة أمير المؤمنين والنسائي في الخصائص ح 18، والحاكم والذهبى في المستدرك وتلخيصه).
[7] كنز العمال، للمتقي الهندي: ج13 ص165).
[8] الاستيعاب، لابن عبد البر: ج3 ص39. وكنز العمال: ج3 ص96، نقلاً عن خمسة من الحفاظ، وص228 نقلاً عن غير واحد من أئمة الحديث)،
[9] فيض القدير: ج4 ص357).
[10] زين الفتى في سورة هل أتى: ج1 ص 317 رقم 225).
[11] (صحيح مسلم: ج4 ص 1874. صحيح الترمذي: ج5 ص622 ح3788).
[12] (مستدرك الحاكم: ج2 ص343؛ وقال: هذا حديث صحيح على شرط ومسلم. وجمع الزوائد، للهيثمي: ج9 ص168).
[13] (المجموع، للنووي: ج5 ص43).
[14] مستدرك الصحيحين، للحاكم النيسابوري: ج3 ص126- 127)
[15] (الأمالي، للشيخ الصدوق: ص425).
[16] (بحار الأنوار: ج40 ص206).
[17] الجامع الصحيح للترمذي، 5 / 596 حديث رقم 3723. دار الكتب العلمية - بيروت 1408 ه / 1987 م.
[18]المناقب لابن المغازلي،ص 75 و 401.
[19] مستدرك الحاكم - كتاب معرفة الصحابة ( ر ) - ذكر إسلام أمير المؤمنين علي ( ع ) - حديث رقم : ( 1415).
[20] (بحار الأنوار: ج40 ص206).
[21] (تاريخ الخلفاء: 131، دار الكتاب العربي).
[22] (كنز العمال، للمتقي الهندي: 13/148).
[23] ((**قال السيد حسن السقاف في تحقيقه على كتابه «تناقضات الألباني الواضحات»: «صحّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» صحّحه الحافظ ابن معين كما في (تاريخ بغداد: 11 / 49)، والإمام الحافظ ابن جرير الطبري في «تهذيب الآثار» مسند سيدنا علي (ص 104 حديث 8) والحافظ العلائي في «النقد الصحيح»، والحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي كما في «اللآلي المصنوعة»: 1 / 334، والحافظ السخاوي كما في «المقاصد الحسنة»)).
0 التعليقات:
إرسال تعليق