السؤال: بعد هجوم داعش على المسيحيين في الموصل سألني أحد النصارى عن قوله تعالى: "قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، وقال بتهكم: إنكم لا تلتزمون بالقرآن، وتقاتلون داعش والمتطرفين لأنهم يعملون بالقرآن نصيا، فهم يقتلون النصارى بدم بارد، لأنهم يلتزمون بالقرآن الكريم، فكيف تقولون إنهم تكفيريون، وهم يلتزمون بما جاء في القرآن؟ وكيف تخرجونهم عن الإسلام بقتلهم النصارى والمجازر التي يفعلونها بهم بلا رفق ولا شفقة، والقرآن أقر بوجوب ذلك؟
الجواب: القرآن نور واحد، يوضح بعضه بعضا ويكمل بعضه بعضا، لا تعارض بين آياته، ولا تشويش. ولكن الذين في قلوبهم مرض يستميتون من أجل تصيد شيء عليه من النقص أو التعارض، بإظهار بعض وإخفاء بعض، وبذكر جزء من الآية وقطعها عن سياقها وتمامها، على طريقة (لا تقربوا الصلاة).
وإلا فإننا لو ركزنا في الآية المذكورة في متن السؤال لوجدناها تسطر لنا أروع القيم الإنسانية؛ فإنها تضمن لأهل الكتاب الذين يعيشون في كنف دولة الإسلام الأمان والحماية والتمتع بما يتمتع به سائر المسلمين من وسائل العيش، وتكفل لهم عدم التعرض لهم ولمعتقداتهم الدينية. كما أن الإسلام يسقط عنهم فريضة الجهاد، ومجموع الصدقات التي تجب على سائر المسلمين. وفي مقابل ذلك تطلب منهم دفع ضريبة مالية بسيطة كل عام باسم الجزية. بحيث لو توقفت تلك الخدمات لسقطت عنهم الجزية!.
وليس في لفظ الجزية أي نوع من الإهانة لهم، فإنها سواء كانت من أصل فارسي (كزيت)[1]، كما قيل، أو عربي أصيل من جذر الجزاء[2]، فهي في كل الأحوال تعني كونها جزاء وفاقا لما يتلقونه من خدمات وتسهيلات، وجزاء لإعفائهم من سائر الحقوق الشرعية المالية التي يدفعها المسلمون، وهو أمر منطقي يتقبله كل إنسان منصف.
وقد انتشرت وشاعت هذه الأنواع من الضرائب بشكل اعتيادي للحكومات في العالم اليوم لقاء بعض الخدمات المدنية، وقد كانت متعارفة أيضا عند الأمم السابقة على الإسلام[3]. وغالبا ما تكون ثقيلة باهظة، كما يسجله التاريخ لنا. أما الإسلام فقد أقر المخالف قبل المؤالف بسماحته وتساهله مع رعاياه، فسجل المستشرق المسيحي سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" شهادته على تسامح المسلمين وامتيازهم عن الأمم والأديان الأخرى، حين ذكر رسالة لأحد رجال الكنيسة وهو البطريق النسطورى (يشوع باف الثالث)؛ يؤكد فيها على احترام المسلمين لعقائد أهل الذمة وعاداتهم وعرفهم مقابل جزية زهيدة تقل عما كانوا يدفعونه إلى ساداتهم السابقين الفرس من الضرائب، ولم يطبق المسلمون على أهل الذمة ما كانوا يوقعونه على المسلمين من عقوبات لشربهم الخمر[4].
ويقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية": "كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار"[5].
ويقر العلامة ويل ديورانت بهذه الحقيقة، في كتابه قصة الحضارة، عندما يؤكد تمتع أهل الذمة، المسيحيين والزرادشتيين واليهود والصابئين في عهد الخلافة الإسلامية بدرجة من التسامح، لا يجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في أيامه هو. فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، وذوي العمى الشديد والفقر. وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية .. ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنين ونصفا في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..."[6].
وهذا بالفعل ما دونه تاريخ المسلمين عن سيرة النبي صلى الله عليه وآله مع أهل الذمة؛ حيث يذكر ابن سعد في طبقاته عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع نصارى نجران، فيقول: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغيّر أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين"[7].
ويذكر عن عبادة بن الصامت رضوان الله عليه في معاهدته مع المقوقس عظيم القبط ، قوله له: "إما أجبتم إلى الإسلام؛ فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدت في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ، نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا ..."[8].
بل إننا نجد تعاليم الدين الحنيف تؤكد أيما تأكيد على حفظ أهل الذمة وتشدد على حسن معاملتهم، وحسن جوارهم، وعدم التمييز في التعامل معهم، إلا في حدود بعض الأحكام الشرعية التي تلزم المسلمين بالتفريق، كمسألة الزواج، وتذكية البهائم والأطعمة وما شاكل ذلك.
فقد استفاض عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من آذى ذميا فقد آذاني)[9]، أو " من ظلم معاهدا كنت خصمه "[10]
ويروي الحر العاملي: أن أمير المؤمنين عليه السلام مر بشيخ مكفوف كبير يسأل، فقال عليه السلام: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال![11].
كما روي عنه عليه السلام أنه وهو خليفة المسلمين، كان قد افتقد درعا له، فوجدها عند يهودي يبيعها في السوق، فقاضاه عند شريح، فقضى شريح لليهودي باعتبار أن أمير المؤمنين عليه السلام لم تكن له بينة ظاهرية على ذلك. فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدّمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه، أشهد أنّ هذا الحقّ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدا رسول اللّه، وأنّ الدّرع درعك يا أمير المؤمنين، كنت راكبا على جملك الأورق، وأنت متوجّه إلى صفّين فوقعت منك ليلا، فأخذتها. وخرج يقاتل مع عليّ عليه السّلام الشراة بالنّهروان فقتل[12].
وقد أثبت التاريخ بالتجربة أن أهل الكتاب كانوا يعيشون في بلاد المسلمين، آمنين وادعين. وليس أدل على ذلك من تواجدهم واستمرار بقائهم وبقاء أماكن عباداتهم من الكنائس والبيع إلى يومنا هذا. ولو كان حكم القرآن بقتلهم وقتالهم ثابتا لمجرد أنهم كتابيون، لما بقيت لهم باقية، وهم أقلية، في بلاد المسلمين الواسعة، ولا سيما البلاد التي كانت تحت رقعة بلاد الخلافة الإسلامية، مثل جزيرة العرب والعراق ومصر والشام، وإيران وشمال أفريقيا. ولم يحصل ما يعكر صفو هذا التعايش إلا في حالات خاصة كانت المنطقة تمر فيها بأشكال التجاذب والاحتقان السياسي والطائفي، في غياب من المرجعية الإسلامية الحقيقية.
فالآية إذن تستعرض لنا عقدا وعهدا يتم بين فئتين من البشر، فئة تحمي وتؤمن، وفئة تنصر وتتعهد بعدم التآمر، فئة عليها الجهاد وحمل السلاح للدفاع وتدفع الخمس والزكاة، وفئة يسقطون عنها ذلك فتدفع بدلا عنه مبلغا ماليا ضئيلا رأس كل سنة. ويستمر ذلك باستمرار الالتزام بمقتضى ذلك العقد المبرم.
أما إذا قررت الجماعة التنصل من ذلك العهد والميثاق، ورفضت أداء الواجب الملقى عليها في مقابل ما تحصله من حقوق ومزايا، وأبت إلا الخروج على الميثاق، فلا بد لصوت الحزم أن يعلو، وللقانون أن يأخذ مجراه، نفيا لشيوع الهرج والمرج والانفلات. فالقتال الذي تأمر به الآية إذن ليس موجها لأي مسيحي أو يهودي، بل للمتمردين منهم. ولذلك قسموا غير المسلمين إلى حربيين وذميين ومعاهدين وغيرهم. وكل له حكمه.
بل إن هذا الحكم يعتبر تمييزا لهم وتفضيلا على سائر المشركين غير الكتابيين، فإن الكفار لا يقبل منهم جزية، بل يقاتلون حتى يسلموا. ففي كتاب الكافي يروي الشيخ الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام أنه: "سئل عن المجوس أكان لهم نبي؟ فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل مكة أن أسلموا وإلا نابذتكم بالحرب فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله: إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب!. فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه صلى الله عليه وآله: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله: أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب أحرقوه أتاهم نبيهم بكتابهم في اثنى عشر ألف جلد ثور"[13].
والإسلام لا يفرض هذه الضريبة على الجميع على حد سواء، بل يراعي القدرة والسعة، فيعفي من لا حول له ولا طائل، بل ويعفي البعض منها رأسا، الشيوخ والنساء والأطفال والرهبان والمجانين وأشباههم، ومن لا قدرة له على الكسب والعطاء. فقد روى الكليني أيضا بسنده إلى طلحة بن زيد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله"[14].
وروى الشيخ الصدوق بطريق حفص بن غياث قال: " سألت أبا عبدالله عليه السلام عن النساء كيف سقطت الجزية ورفعت عنهن؟ فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن وإن قاتلت أيضا فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها (إلى أن قال: ) وكذلك المقعد من أهل الشرك والذمة والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب من أجل ذلك رفعت عنهم الجزية "[15].
وبعد هذا الذي تقدم هل الإسلام يأمر بقتل النصارى بدم بارد؟! هل القرآن يأمر بالتكفير وهو الذي يقول: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"[16]؟ أوليس القرآن يحتاج في فهمه إلى علمائه المتخصصين؟ هل يمكن أخذ معانيه من كل من هب ودب من المتطفلين؟! هل يمكن أن نقبل تفسيره من أشخاص يدعون الإسلام ويحاربونه؟ يرفعون لواءه بألسنتهم وينقضونه بأفعالهم؟ ماذا أجاد هؤلاء غير الذبح وارتكاب الفواحش وتدمير البلاد والعباد، ماذا قدموا لأفغانستان غير الخراب، ولسوريا والعراق والصومال، وكل بلد دخلوه!.
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
______________
[1] مفاتيح العلوم، للخوارزمي: في الفصل الثاني من الباب الرابع، قال: جمع جزية، وهو معرب كزيت، وهو الخراج، بالفارسية.
[2] راجع معاجم اللغة، كلسان العرب والصحاح.
[3] ذكروا أن كسرى كان يفرض الجزية على فئات من رعاياه.
[4] الدعوة إلى الإسلام، سير توماس أرنولد، ترجمة وتحقيق حسن عابدين النحراوي:
[5] الحضارة الإسلامية: ج1 ص96.
[6] قصة الحضارة: ج12 ص131.
[7] الطبقات الكبرى لابن سعد: ج1 ص266.
[8] فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم: 68.
[9] راجع مستدرك الوسائل 11/168 ب3.
[10] بحار الأنوار 74/21 ح2 ب1. وفي البحار: 32/486 ب29 ح691 (بيان) وفيه: (من آذى ذمتي فكأنما آذاني).
[11] وسائل الشيعة: ج11 ص49 باب 19 : ان نفقة النصراني إذا كبر وعجز عن الكسب من بيت المال ح1.
[12] تاريخ الخلفاء ج1. والصواعق المحرقة: ج2 ص384.
[13] الوسائل : 15/126 ، أبواب جهاد العدو ب49 ح1 .
[14] الوسائل 11 / 48 و 100، الباب 18 و 51 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3 و 1.
[15] الوسائل 11 / 47، الباب 18 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
[16] البقرة: 256.