السؤال: هل بالإمكان أن توضح لي كيف أن سعادة الدنيا والآخرة للمؤمن؟ داعماً الشرح بالأحاديث الشريفة.
الجواب: لا بد من أن نسأل أنفسنا قبل ذلك: ما المراد من السعادة أصلاً؟ هل هي بكثرة المال؟ هل هي بسلامة الجسم؟ هل هي بالجاه والسلطان؟ هل هي برفاهية العيش؟ هل هي بإشباع الغرائز الحيوانية؟ أم هي بالقوة البدنية؟ أم بكثرة العلم؟ أم بالتنسك والزهد والرهبانية، والتربية الروحانية؟ فإننا نرى كثيرين قد توفروا على هذه الأمور ومع ذلك رأيناهم يصرحون بعدم السعادة. وقد اختلف أصحاب الفكر والرأي من مختلف الملل والمشارب في تعريف السعادة والوصول إليها.
وفي اعتقادنا الراسخ أن النتائج التي ذكرتها التجارب البشرية، والطرق المسدودة التي وصلت إليها جراء سلوكها طرقاً معوجة وملتوية، أو منقوصة الأبعاد، كل ذلك دليل صارخ على خطأ تلك المناهج. ومعلوم أن الإخفاق يكشف عن الخلل في الأسلوب والطريق. وقد صرح الإسلام العظيم بذلك أيضاً من خلال تعاليمه الحكيمة والدقيقة، في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
فلا بد من تعريف صحيح وواضح للسعادة، وكذلك لا بد من تحديد أبعاد الكائن الذي تراد له السعادة، ولو بالإجمال. ونعني بالكائن هنا الإنسان. ولا ريب أن السعادة المنشودة ليست هي حالة النشوة المؤقتة، التي قد تخيم على الفرد مدة من الزمن طالت أم قصرت، فإنها إلى زوال واضمحلال.
إن السعادة المنشودة هي استقرار حالة الرضا والانسجام التي يستشعر فيها الفرد بالانسجام بين احتياجاته وطموحاته وبين واقعه، في امتداديه الطولي والعرضي بالفعل والقوة. والمراد بالطول كل المراحل التي يمر بها الانسان في مسيرته الطويلة. والمراد بالعرضي كل أبعاد الإنسان الواقعية، من مقوماته وكمالاته. ومعلوم أن الانسان كائن متعدد الأبعاد، من روح ونفس وجسد، متنقل في عوالم مختلفة، لكل منها احتياجاته وقوانينه، ومنها ما يكون مشتركاً وثابتاً بين كل تلك العوالم، ومنها ما يكون متغيراً ومتحركاً.
فإذا أمعنّا الفكر في ذلك كله، نجد أن السعادة الواقعية تكمن في المواءمة بين الإنسان ككل وبين كل أبعاده ومراحله تلك. وبأي الطرق التحليلية سرنا، فإن المنطق يقول إن السعادة الحقيقية، أو لنقل: الكُملى، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار تلك المؤثرات جمعاء. فلا يصح أن نلغي غرائزه، كما لا يصح أن نلغي كمالاته النفسية، وكذلك يجب أن نضع في الحسبان ما سوف يهجم عليه من مستقبل حتمي مجهول في العوالم الأخرى.
ومع ذلك فالإسلام العظيم الذي ينطق عن الله الحكيم الخبير؛ " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" (الملك: 14)، قد كشف لنا عن بعض أسرار الغيب، وأظهر لنا أن كل أحكامه، بما فيها من تكاليف، ومشاق ظاهرية، هي في الواقع من أجل سعادتنا في الدارين. فهو سبحانه قد أوجب علينا الحج بما فيه من تعب ومشقة واضحين، ولكنه يقول عز وجل: "ليشهدوا منافع لهم"(الحج: 28)، وكتب علينا الصيام وهو مشقة في الظاهر، لكنه من أجل نفعنا وسعادتنا في الدنيا قبل الآخرة،كما قال تعالى: "كتب عليكم الصيام ... لعلكم تتقون"(البقرة: 183)، "فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 184)، ولكي يتعرف الغني على فقر الفقراء، فيفشو التكافل في المجتمع، ويعود النفع على الجميع، بما في ذلك الغني نفسه، وكتب علينا الزكاة وهي بذل مستصعب، لكنه سبحانه يبين العلة فيه فيقول: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "(التوبة: 103). وهكذا أوجب علينا الصلاة، والقصاص والعفاف، وحرّم علينا الربا والزنا والملاهي وأشباهها،كل ذلك من أجل نفع الإنسان نفسه، في هذه الدنيا، لكي يعيش البشر في وئام وانسجام، وفي الآخرة لكي يعيشوا النعيم الأبدي المقيم.
لذلك فإن الذي يغفل عن الله سبحانه وينغمس في الملذات بتوهم أنها هي السعادة، ما تلبث أن تزول عنه، فتذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فيعيش الحرمان، وربما الندم. لكن الإسلام لم يحرم الملذات، بل قننها، ونظمها، بحيث جعلها تجري في المسار الإلهي، فالنوم يكون عبادة ولذة إذا كان في المسار الإلهي، والجنس يكون كذلك عبادة بهذا الاعتبار، والثروة، والكمال والجمال، والشهرة، وكل ما قالوا أنه محور السعادة، ربما يكون شكلاً من أشكالها، وبعداً من أبعادها، بشرط أن يكون في الحلال، وفي رضا الله جل وعلا.
لذلك لا نعجب عندما نجد أمير المؤمنين عليه السلام، يراجع النبي صلى الله عليه وآله بين الغزوة والغزوة ليسأله عن زمان شهادته إذا كان قد حان!. ثم نراه أشد ابتهاجاً حين يفضخ المرادي رأسه بسيفه المسموم، فيقول مستبشراً: "فزت ورب الكعبة"!. وكذلك لا نتفاجأ إذا رأينا الإمام الحسين عليه السلام يعيش حالة الاطمئنان والرضا، بعد أن قتل العدو جميع أبنائه وقراباته وأصحابه، يقول: " إلهي رضا برضاك.. لا معبود سواك يا غياث المستغيثين"! (ينابيع المودّة ص418، أسرار الشهادة ص423). ويقول كذلك وهو في تلك الحال: "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله"! (اللهوف لابن طاووس: ص49، البحار للمجلسي: ج45، ص46).
وهكذا حينما جلس ابْن زياد في القصر للناس وأذن إذناً عامّاً، وَ جِيءَ برأس الحسين ( عليه السلام ) فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَ أُدْخِلَ نِسَاءُ الْحُسَيْنِ وَ صِبْيَانُهُ إِلَيْهِ، فَجَلَسَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ (عليه السلام) مُتَنَكِّرَةً. فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ .فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَ أَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ! فَقَالَتْ: إِنَّمَا يفتضحُ الْفَاسِقُ، وَ يَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَ هُوَ غَيْرُنَا. فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ (بحار الأنوار: ج15 ص115). كانت بذلك تخاطب أميراً مستأسداً، بكل رباطة جأش وطمأنينة نفس، مع أنها كانت أسيرة لا تملك حولاً ولاقوة في الظاهر!.
فالسعادة إذن هي حالة الانسجام النفسي الذي يعيشه الانسان حتى لو كان في ظاهره يعيش حالة العوز والحرمان، أو تحت ثقل الحديد والأغلال في غيابات السجون، وفي المقابل ربما يكون في غاية الشقاء، مع أنه ينام على جبال من الثروة المالية، أو يتربع على حكم البلاد والعباد. ومن هنا يتضح معنى قوله تعالى: "الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"(الرعد: 28). وقوله تبارك وتعالى: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه: 123-124) وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " (الأنفال: 24). وقوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل: 97).
ومن الروايات في هذا المجال، وهي كثيرة آبية عن الحصر: ما عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء".(بحار الأنوار: ج5 ص154)
وعندما سأله رجل: ما السعادة وما الشقاوة؟ قال عليه السلام: "السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسّك به الشقي فجره إلى الهلكة، وكل بعلم الله تعالى". (بحار الأنوار: ج10 ص184)
وقال عليه السلام: "فالمتبع لعقله يرزق السعادة والفوز، فهذا هو الذي طاب ظاهره وطاب باطنه، والمتبع لمقتضى هواه.. يرزق الشقاوة والعطب، وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه".( بحار الأنوار: ج29 ص604)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "أربع من سعادة المرء: الخلفاء الصالحون، والولد البار، والمرأة المؤاتية، وأن تكون معيشته في بلده"( بحار الأنوار: ج100 ص86). وعنه صلّى الله عليه وآله: "من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب البهي، والولد الصالح"( بحار الأنوار: ج73 ص154).
ولكنه صلّى الله عليه وآله يؤكد عدم الانحصار في أمثال هذه النعم فيقول: "من لم ير لله عز وجل عليه نعمةً إلا في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ، فقد قصر عمله ودنى عذابه"( بحار الأنوار: ج70 ص8). ويقول الامام الباقر عليه السلام: "ليس منا من ترك دنياه لدينه، ولا دينه لدنياه"( بحار الأنوار: ج75 ص321).
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
الجواب: لا بد من أن نسأل أنفسنا قبل ذلك: ما المراد من السعادة أصلاً؟ هل هي بكثرة المال؟ هل هي بسلامة الجسم؟ هل هي بالجاه والسلطان؟ هل هي برفاهية العيش؟ هل هي بإشباع الغرائز الحيوانية؟ أم هي بالقوة البدنية؟ أم بكثرة العلم؟ أم بالتنسك والزهد والرهبانية، والتربية الروحانية؟ فإننا نرى كثيرين قد توفروا على هذه الأمور ومع ذلك رأيناهم يصرحون بعدم السعادة. وقد اختلف أصحاب الفكر والرأي من مختلف الملل والمشارب في تعريف السعادة والوصول إليها.
وفي اعتقادنا الراسخ أن النتائج التي ذكرتها التجارب البشرية، والطرق المسدودة التي وصلت إليها جراء سلوكها طرقاً معوجة وملتوية، أو منقوصة الأبعاد، كل ذلك دليل صارخ على خطأ تلك المناهج. ومعلوم أن الإخفاق يكشف عن الخلل في الأسلوب والطريق. وقد صرح الإسلام العظيم بذلك أيضاً من خلال تعاليمه الحكيمة والدقيقة، في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
فلا بد من تعريف صحيح وواضح للسعادة، وكذلك لا بد من تحديد أبعاد الكائن الذي تراد له السعادة، ولو بالإجمال. ونعني بالكائن هنا الإنسان. ولا ريب أن السعادة المنشودة ليست هي حالة النشوة المؤقتة، التي قد تخيم على الفرد مدة من الزمن طالت أم قصرت، فإنها إلى زوال واضمحلال.
إن السعادة المنشودة هي استقرار حالة الرضا والانسجام التي يستشعر فيها الفرد بالانسجام بين احتياجاته وطموحاته وبين واقعه، في امتداديه الطولي والعرضي بالفعل والقوة. والمراد بالطول كل المراحل التي يمر بها الانسان في مسيرته الطويلة. والمراد بالعرضي كل أبعاد الإنسان الواقعية، من مقوماته وكمالاته. ومعلوم أن الانسان كائن متعدد الأبعاد، من روح ونفس وجسد، متنقل في عوالم مختلفة، لكل منها احتياجاته وقوانينه، ومنها ما يكون مشتركاً وثابتاً بين كل تلك العوالم، ومنها ما يكون متغيراً ومتحركاً.
فإذا أمعنّا الفكر في ذلك كله، نجد أن السعادة الواقعية تكمن في المواءمة بين الإنسان ككل وبين كل أبعاده ومراحله تلك. وبأي الطرق التحليلية سرنا، فإن المنطق يقول إن السعادة الحقيقية، أو لنقل: الكُملى، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار تلك المؤثرات جمعاء. فلا يصح أن نلغي غرائزه، كما لا يصح أن نلغي كمالاته النفسية، وكذلك يجب أن نضع في الحسبان ما سوف يهجم عليه من مستقبل حتمي مجهول في العوالم الأخرى.
ومع ذلك فالإسلام العظيم الذي ينطق عن الله الحكيم الخبير؛ " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" (الملك: 14)، قد كشف لنا عن بعض أسرار الغيب، وأظهر لنا أن كل أحكامه، بما فيها من تكاليف، ومشاق ظاهرية، هي في الواقع من أجل سعادتنا في الدارين. فهو سبحانه قد أوجب علينا الحج بما فيه من تعب ومشقة واضحين، ولكنه يقول عز وجل: "ليشهدوا منافع لهم"(الحج: 28)، وكتب علينا الصيام وهو مشقة في الظاهر، لكنه من أجل نفعنا وسعادتنا في الدنيا قبل الآخرة،كما قال تعالى: "كتب عليكم الصيام ... لعلكم تتقون"(البقرة: 183)، "فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 184)، ولكي يتعرف الغني على فقر الفقراء، فيفشو التكافل في المجتمع، ويعود النفع على الجميع، بما في ذلك الغني نفسه، وكتب علينا الزكاة وهي بذل مستصعب، لكنه سبحانه يبين العلة فيه فيقول: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "(التوبة: 103). وهكذا أوجب علينا الصلاة، والقصاص والعفاف، وحرّم علينا الربا والزنا والملاهي وأشباهها،كل ذلك من أجل نفع الإنسان نفسه، في هذه الدنيا، لكي يعيش البشر في وئام وانسجام، وفي الآخرة لكي يعيشوا النعيم الأبدي المقيم.
لذلك فإن الذي يغفل عن الله سبحانه وينغمس في الملذات بتوهم أنها هي السعادة، ما تلبث أن تزول عنه، فتذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فيعيش الحرمان، وربما الندم. لكن الإسلام لم يحرم الملذات، بل قننها، ونظمها، بحيث جعلها تجري في المسار الإلهي، فالنوم يكون عبادة ولذة إذا كان في المسار الإلهي، والجنس يكون كذلك عبادة بهذا الاعتبار، والثروة، والكمال والجمال، والشهرة، وكل ما قالوا أنه محور السعادة، ربما يكون شكلاً من أشكالها، وبعداً من أبعادها، بشرط أن يكون في الحلال، وفي رضا الله جل وعلا.
لذلك لا نعجب عندما نجد أمير المؤمنين عليه السلام، يراجع النبي صلى الله عليه وآله بين الغزوة والغزوة ليسأله عن زمان شهادته إذا كان قد حان!. ثم نراه أشد ابتهاجاً حين يفضخ المرادي رأسه بسيفه المسموم، فيقول مستبشراً: "فزت ورب الكعبة"!. وكذلك لا نتفاجأ إذا رأينا الإمام الحسين عليه السلام يعيش حالة الاطمئنان والرضا، بعد أن قتل العدو جميع أبنائه وقراباته وأصحابه، يقول: " إلهي رضا برضاك.. لا معبود سواك يا غياث المستغيثين"! (ينابيع المودّة ص418، أسرار الشهادة ص423). ويقول كذلك وهو في تلك الحال: "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله"! (اللهوف لابن طاووس: ص49، البحار للمجلسي: ج45، ص46).
وهكذا حينما جلس ابْن زياد في القصر للناس وأذن إذناً عامّاً، وَ جِيءَ برأس الحسين ( عليه السلام ) فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَ أُدْخِلَ نِسَاءُ الْحُسَيْنِ وَ صِبْيَانُهُ إِلَيْهِ، فَجَلَسَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ (عليه السلام) مُتَنَكِّرَةً. فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ .فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَ أَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ! فَقَالَتْ: إِنَّمَا يفتضحُ الْفَاسِقُ، وَ يَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَ هُوَ غَيْرُنَا. فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ (بحار الأنوار: ج15 ص115). كانت بذلك تخاطب أميراً مستأسداً، بكل رباطة جأش وطمأنينة نفس، مع أنها كانت أسيرة لا تملك حولاً ولاقوة في الظاهر!.
فالسعادة إذن هي حالة الانسجام النفسي الذي يعيشه الانسان حتى لو كان في ظاهره يعيش حالة العوز والحرمان، أو تحت ثقل الحديد والأغلال في غيابات السجون، وفي المقابل ربما يكون في غاية الشقاء، مع أنه ينام على جبال من الثروة المالية، أو يتربع على حكم البلاد والعباد. ومن هنا يتضح معنى قوله تعالى: "الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"(الرعد: 28). وقوله تبارك وتعالى: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه: 123-124) وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " (الأنفال: 24). وقوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل: 97).
ومن الروايات في هذا المجال، وهي كثيرة آبية عن الحصر: ما عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء".(بحار الأنوار: ج5 ص154)
وعندما سأله رجل: ما السعادة وما الشقاوة؟ قال عليه السلام: "السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسّك به الشقي فجره إلى الهلكة، وكل بعلم الله تعالى". (بحار الأنوار: ج10 ص184)
وقال عليه السلام: "فالمتبع لعقله يرزق السعادة والفوز، فهذا هو الذي طاب ظاهره وطاب باطنه، والمتبع لمقتضى هواه.. يرزق الشقاوة والعطب، وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه".( بحار الأنوار: ج29 ص604)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "أربع من سعادة المرء: الخلفاء الصالحون، والولد البار، والمرأة المؤاتية، وأن تكون معيشته في بلده"( بحار الأنوار: ج100 ص86). وعنه صلّى الله عليه وآله: "من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب البهي، والولد الصالح"( بحار الأنوار: ج73 ص154).
ولكنه صلّى الله عليه وآله يؤكد عدم الانحصار في أمثال هذه النعم فيقول: "من لم ير لله عز وجل عليه نعمةً إلا في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ، فقد قصر عمله ودنى عذابه"( بحار الأنوار: ج70 ص8). ويقول الامام الباقر عليه السلام: "ليس منا من ترك دنياه لدينه، ولا دينه لدنياه"( بحار الأنوار: ج75 ص321).
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.