السؤال: الأطباء دائماً ما يؤيدون الإكثار من شرب الماء، حتى وإن لم يعطش الإنسان ولكن قرأنا الكثير من الروايات لا تؤيد شرب الماء دونما سبب. ولسنا من أهل الخبرة في تتبعها ومعرفة صحتها أو وضعها؛ فهل هناك روايات تؤيد ذلك الإكثار من الماء أيضاً؟ وشكراً جزيلاً لكم.
الجواب: "إن مسألة شرب الماء خلال تناول الطعام تمت مناقشتها مراراً ولغاية الآن لا يوجد هناك توافق بين الآراء حتى بين الأطباء والباحثين. فالذين يعارضون شرب الماء أثناء الوجبات يدّعون أن ذلك مضرّ للجسم وينصحون بشرب الماء إما قبل الوجبة بنصف ساعة أو بعدها بنصف ساعة".
ولا شك في أهمية ماء الشرب بالنسبة إلى جسم الإنسان، فقد ذكروا أنه "يشكل نسبة 75٪ من وزنه، ونسبة الماء في المخ تصل الى حوالي 85٪ من وزنه، وللماء وظيفة مصيرية بكل ما يتعلق بتقليل كثافة الدم لتسهيل عملية جريانه في العروق، ولإذابة الطعام وتوزيعه في عملية استقلاب المواد. كذلك فإن الماء يشارك في جميع العمليات والتفاعلات الكيماوية في الجسم ويحمل ويوزّع المواد الكيماوية والهورمونات بين خلايا الجسم، ويساهم في تجدّد خلايا الجسم ويوازن درجة حرارته. كذلك يشكّل الماء قناة لتخليص الجسم من الفضلات والأملاح عن طريق البول".
لكن لكي نتمكن من المقارنة بين التعاليم الصحية اليوم، وتعاليم الدين الحنيف، لا بد من الالتفات إلى عدة أمور:
1- أن ما يأتي به الوحي، وإن لم نفهمه أو ظنَنّا ما يخالفه: نعتقد جازمين أنه هو الحق وأن ما يخالفه أو يختلف عنه هو الباطل. لأنه يصدر عن الله سبحانه الخلاق العليم؛ "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[1]؟، "بلى وهو الخلاق العليم"[2].
ومن تلك النصوص آيات قرآنية واضحة في الخلط بين الأكل وشرب الماء، كقوله تعالى: " قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا"[3]. وقوله عز وجل: " إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"[4]. والجمع فيها بين الأكل والشرب هو الظاهر من هذه الآية ومن أغلب الآيات التي جاءت بهذا اللفظ.
وهذا الحكم والعقيدة الراسخة يشمل السنة الصادرة عن النبي الأكرم وأئمة الهدى صلوات الله عليهم، وهو – إذا ثبت - أمر مقدّمٌ على نتايج البحوث الطبية النظرية، التي لم ترق بعد لتكون حقائق علمية مسلمة. حتى وإن لم يختلفوا فيها وعرضوها على أنها أمور علمية متفق عليها. وما أكثر الأفكار والمعلومات التي كانت شائعة أو سائدة يوماً مّا على أنها ثوابت وحقائق، وإذ بها تتهاوى أمام اكتشافات جديدة، قلبتها إلى عقائد بالية وعلوم مغلوطة، كما هو الحال بالنسبة لسطحية الأرض، ومركزيتها للكون، وانكساف الشمس وانخساف القمر، وأمثالها كثير.
2- أن العلم اليوم ما يزال مختلفاً حول شرب الماء، وفائدته ومضرته، قلة وكثرة، أثناء الطعام وقبله وبعده. ففي حين نجد البعض يؤكد على فائدة كثرة شرب الماء، يؤكد آخرون على عدم صحة هذا الأمر. وهكذا بالنسبة إلى تناول الماء مع الأكل؛ فبعضهم ينصح بعدمه معللاً ذلك بتسببه في عسر الهضم، فيما يرى غيرهم أنه على العكس من ذلك يفيد الهضم ويساعد الفم والمعدة على مضغه وهضمه. وكل أصحاب هذه الآراء من ذوي الإختصاص!.
وفي الوقت الذي لا نكذب فيه الأطباء فيما يُدْلون به، إلا أن هذا الاختلاف والتشويش ناتج عن الاطلاع الناقص على العلل والأسباب. فترى بعض البحوث تقرر ضرر الشاي مثلاً، وتأتي بحوث أخرى لتنفيه. وربما غلبت بعض هذه التقارير في فترة معينة على غيرها، لكنها في النهاية لا يمكن أن تعبر عن حقائق كاملة. وكما يقول الشاعر:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
3- أن النصوص النقلية هي أخبار مروية قد لا تكون قطعية الصدور، وإن بلغت في الاصطلاح الدرائي والحديثي مراتب عالية في الرواية. بل قد تكون قطعية الصدور لكنها تبقى ظنية الدلالة، وإن كان ظاهرها واضحاً وصريحاً للوهلة الأولى؛ لأن جهة الصدور غير يقينية، نتيجة لبعد الزمن وخفاء بعض القرائن المشخصة للمراد الحقيقي والدقيق. فلفظة الماء مثلاً ما هو المراد منها، هل هو مطلق الماء، أم ماء خاص، كماء زمزم، أو ماء الفرات؟ والمخاطب كذلك هل هو معتاد الناس لكل زمان، أم صنف خاص منهم يشكو من حالة معينة في ذلك الزمان أو المكان، بلحاظ الظرف الذي يعيشونه، وما يمكن أن يتعرض إليه من أعراض وأمراض. وعلى هذا قد لا يكون ما هو صالح لزمان أو مكان مّا صالحاً لزمان أو مكان آخرَين.
4- أن الوضع الصحي الذي عليه الناس اليوم لا يصح أن يقاس عليه الوضع في تلك الأيام الغابرة، فالأبدان غير الأبدان، والأطعمة غير الأطعمة، والمؤثرات غير المؤثرات. ولا يستطيع أن يميز بين الحالين غير العالم المتخصص. فإن الأمراض الشائعة اليوم قد تفرض علاجاً معيناً قد لا يكون مفيداً عند صحة البدن وسلامته، والعكس صحيح أيضاً.
ولذلك قالوا: إن شرب الماء لبعض المرضى يكون بمثابة السم، بحيث يمنع عنه حتى مقدار القطرة الواحدة. وقد يحصل له يبوسة معينة وجفاف، نظراً لحرارة الفصل، أو يكون مصاباً بالرمال والحصيات البولية، أو بالإمساك المزمن؛ فيحتاج إلى كميات وافرة من الماء. وأما سواه من المعتدلين، أو المصابين بالإسهال فإنه ينصح بالإقلال من السوائل بعكس سابقه. وفي هذا السياق يمكن فهم بعض الأحاديث من قبيل: "أن تشرين الآخر ثلاثون يوما، فيه يقطع المطر الوسمي، وينهى فيه عن شرب الماء بالليل، ويقلل فيه من دخول الحمام والجماع، ويشرب بكرة كل يوم جرعة ماء حار، ويجتنب أكل البقول كالكرفس والنعناع والجرجير"[5].
وإن التلوث البيئي اليوم قد أوجد حالات شبه ثابتة، وأمراضاً يصح أن تدعى بأمراض العصر. فما يشخصه الأطباء وأخصائيو التغذية وإن كان ظاهره مضاداً لمضمون تلك الأحادث إلا أنه تشخيص ناظر للحالات المستجدة، فلا تضارب ولا اختلاف.
وبعد أن اتضحت تلك المقدمات نقول:
إن الروايات الشرعية حول شرب الماء مختلفة الألسنة، فبعضها يحث عليه بعد الطعام، باعتبار أنه يخفف من جشوبته، ويساعد الفم على طحنه ومضغه، والمعدة على هضمه وتحليله. ولعل التعبير هنا بكثرة الشرب يراد منها الكثرة النسبية، أي نسبة إلى الأوقات الأخرى التي لا يستحب فيها ذلك. ففي بعض الروايات تذكر التلذذ بالشرب، وفائدة الإكثار منه. والتلذذ لا يحصل بمجرد الإكثار من الماء، بل يتوقف على إطالة أمد مكثه في الفم، وتمريره لتذوق طعمه، والإحساس ببرده. وكثرته لا تعني بالضرورة الكثرة الكمية، فإن الماء حين يمكث في الفم يستلزم بقاء الكمية المحدودة بنفسها مدة طويلة في الفم. وقد يكون المراد منه التخلص من الجفاف، أوجعل مجاري الجوف مببلة وحاجة البدن من الماء مؤمَّنة.
وبهذا يمكن الخروج بوجه يجمع بين لسانين في الأحاديث: بين الحث على كثرة التلذذ به والنهي عن الإكثار من الشرب. إذ التلذذ لا يعني كثرة إدخاله في الجوف، بل كثرة إبقائه في جوف الفم، بينما الثاني ينهى عن كثرة الإدخال في الجوف، بقصد الريّ من العطش، لأن العطش غالباً ما يكون كاذباً وغير حقيقي.
فعن التلذذ روي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: "من تلذذ بالماء في الدنيا لذذه الله من أشربة الجنة"[6]. وقال أبو الحسن عليه السلام: "إنى أكثر شرب الماء تلذذاً"[7].
على أن الكثرة المطلوبة لم يعرف بعد كماً وعددا، بمعنى: هل أن هذا الحث هو بعد كل طعام أم بعد أنواع خاصة منه، وهل بكميات وافرة، أم بقدر يرفع الجفاف واليبوسة فقط؟ فإن بعض تلك الأخبار تأمر بالإقلال منه بعد تناول الدسم، وبعضها تنهي عن الإكثار من الشرب بشكل مطلق؛ مما ينصح بالرجوع في فهمه إلى المتخصصين في الطب والتغذية. فعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "لا بأس بكثرة شرب الماء على الطعام، وأن لا يكثر منه"[8]. وقال: "أرأيت لو أن رجلاً أكل مثل ذا طعاماً، (وجمع يديه كلتيهما، لم يضمهما، ولم يفرقهما)، ثم لم يشرب عليه الماء؛ أليس كانت تنشق معدته"[9]؟!. وعن ابن أبي طيفور المتطبب قال: دخلت على أبي الحسن الماضي، (يعني الإمام موسى بن جعفر عليه السلام. ولعله كان قد عاده في مرضه)، فنهيته عن شرب الماء. فقال: " وما بأس بالماء؟ وهو يدير الطعام في المعدة، ويسكن الغضب، ويزيد في اللبن ويطفئ المرار"[10]!. ولكن عن الإمام الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أكل الدسم أقل من شرب الماء. فقيل: يا رسول الله، إنك لتُقلّ شرب الماء!. قال: هو أمرأ لطعامي"[11]. وعن الإمام الصادق عليه السلام وهو يوصي رجلاً، فقال: "أقلل من شرب الماء، فإنه يمد كل داء، واجتنب الدواء ما احتمل بدنك الداء"[12]. وعنه عليه السلام في رواية أخرى: "لا تكثر من شرب الماء، فإنه مادة لكل داء"[13]. وعنه أيضاً قوله: "لو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم"[14].
سماحة الشيخ عبدالحسن نصيف.
_________
[1] الملك: 14.
[2] (يس: 81).
[3] (مريم: 23-26).
[4] (المرسلات: 41- 43).
[5] بحار الأنوار: ج59 ص314.
[6] (ثواب الاعمال: 219).
[7] (بحار الأنوار: ج63 ص455).
[8] (بحار الأنوار: ج63 ص457).
[9] (المصدر السابق نفسه وبنفس الصفحة).
[10] (بحار الأنوار: ج63 ص457 ح42؛ وراجع الكافي 6 ر382 ).
[11] (الجعفريات: 161).
[12] (الكافي: ج ٦ ص ٣٨٢ ح ٢؛ المحاسن: ج ٢ ص ٣٩٧ ح ٢٣٨٧).
[13] (الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الأشربة المباحة - الحديث 1).
[14] (وسائل الشيعة: ج17 ص190 ح4 ب6).