إن طبيعة الجنس البشري أنه يتأثر بالأوهام، إلى درجة أنه يتعامل مع الموهوم تعامله مع المتيقن.. مثال ذلك: لو طلب من إنسان أن ينام ليلة مع ميت، فإن معظم الناس يستوحش من ذلك، رغم يقينه أن هذا الميت كالخشبة.. فالإنسان يخاف من الحي، لا من الميت.
قديما كانت تعد الجراثيم من عالم الغيب -بمعنى من المعاني- لأنها لا ترى، وذلك قبل اكتشاف المجهر، أما الآن وبعد اكتشافه، فإننا نرى أدق الأشياء.. وهذه الأيام هنالك ما يسمى: بالعين، والسحر، والشعوذة، والعمل.. فما هو الموقف الشرعي تجاه هذه الأمور؟..
إن بعض الناس طبيعتهم هكذا!.. ولعل البعض يتظاهر بالأكاديمية، وأنه إنسان علمي وموضوعي، فينفي كل شيء ما وراء المادة.. وطبعا هذا من الجهل بكل وضوح!.. لأننا نعيش في بيئة مليئة بالأمواج المغناطيسية، والكهربائية، والصوتية ...الخ.. وكل ما حولنا هو أشد تأثيرا في حياتنا من الشهود.. وعليه، فإن الإنسان الذي لا يعتقد بأصل المادة، هذا إنسان غير موضوعي.
إن الإنسان لا ينفي أصل الموضوع، فهناك سورة في القرآن الكريم باسم (الجن) {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}.. وبالنسبة إلى السحر أيضا يقول القرآن الكريم: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}.. قديما كان هذا السحر موجودا، كانوا يعقدون العقد على الحبل، وتنفث فيه الساحرة.. وهناك معنى آخر للنفاثات: أي أن الإنسان إذا عقد عزمه على شيء، يأتي إنسان يحبط من عزمه؛ أي ينفث في عقده.. وورد أيضا في القرآن الكريم: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}.
فإذن، إن هناك حقيقة قائمة، ولكن ليس معنى ذلك أن كل ما يراه الإنسان من عوامل غريبة، ينسبه إلى السحر وما شابه ذلك.. أحدهم يقول: دخلتُ على الهادي (ع)، وقد نكيت إصبعي، وتلقّاني راكبٌ وصدم كتفي، ودخلتُ في زحمةٍ، فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يومٍ فما أشأمك!.. فقال لي: (يا حسن!.. هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك من لا ذنب له).. فأثاب إليّ عقلي، وتبيّنتُ خطائي، فقلت: مولاي!.. أستغفر الله، فقال: (يا حسن!.. ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشأمون بها، إذا جُوزيتم بأعمالكم فيها)؟.. قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً وهي توبتي يا بن رسول الله!.. قال: (والله ما ينفعكم، ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه.. أما علمت يا حسن!.. أنّ الله هو المثيب والمعاقب، والمجازي بالأعمال عاجلاً وآجلاً)؟.. قلت: بلى، يا مولاي!.. قال: (لا تعد، ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله)..
وعليه، فإن هناك نكبات وبلاء، ولكن ليس معنى ذلك أنه كلما رأينا بلية، نفسر ذلك على أنه من عمل السحر والجن وما شابه ذلك.. والحل هو:
أولاً: أن لا ننتقل من عالم الشهود إلى عالم ما وراء الطبيعة إلا بدليل قاطع، وأنى لنا بدليل قاطع!..
ثانياً: دفع الصدقة.. فالوقاية خير من العلاج.. هناك ما يسمى اليوم بالتطعيم ضد الأوبئة والأخطار، لمن يخاف من المفاجآت المستقبلية.. وكذلك الذي يخاف من مفاجآت القضاء والقدر، عليه أن يدفع صدقة، وقد يكون أثر هذا العمل أكثر من بعض الأحراز لأن فيه تضحية، {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
فإذن، يستحب للإنسان أن يدفع صدقة يومية، والذي نفهمه من الروايات، أن صدقة الليل غير صدقة النهار.. وهناك فرق بين عزل الصدقة وبين دفع الصدقة، حيث أن الأثر الأتم لدفع الصدقة للفقير، لا لعزل الصدقة.. ومن هنا ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أنّه قال: (إنّي ضامن على ربّي تعالى، أنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتّى تقع في يد الربّ تعالى)، وكان يقول: (ليس من شيء إلاّ وكّل به ملك، إلاّ الصدقة فإنّها تقع في يد الله تعالى).. فهذا الفقير مرتبط بنحو من الأنحاء بالله عز وجل؛ لأن الفقراء عيال الله.
هناك ما يسمى بالحل الشرعي لمن لا يستطيع دفع الصدقة مباشرة إلى الفقير، وهو: أخذ وكالة من الفقير.. تقول: يا فلان!.. اجعلني وكيلا عنك في قبض الصدقات.. فتجعل الصدقة في يدك اليمنى ثم تقول: أخذت هذه الصدقة نيابة عن الفقير الفلاني، ثم تقبض المال.. وهكذا تجمع هذه الصدقات، وتجعلها أمانة عندك، إلى أن تراه في يوم من الأيام، وتقدمها له.. وبهذه الطريقة تدفع المال إلى الفقير مباشرة.. وهذا الطريقة أشد تأثيرا في دفع البلاء، من عزل الصدقة ودفعها في فيما بعد.
سماحة الشيخ حبيب الكاظمي.